حِرْص النبي على هداية الناس

0 196

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن نبيا ورسولا لفئة من الناس، بل كان رسولا للناس كافة، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}(سـبأ:28). قال ابن كثير: "أي: إلى جميع الخلق من المكلفين". وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (يا أيها الناس: إنما أنا رحمة مهداة).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس حرصه الشديد على هدايتهم إلى الله عز وجل، ومن ثم كان يحزن أشد الحزن على من يأبى الدخول في الإسلام، ولذا قال الله تعالى له: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}(الكهف:6)، قال السعدي في تفسيره: "لما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكاذبين الضالين، شفقة منه صلى الله عليه وسلم ورحمة بهم، فأرشده الله ألا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الآخرى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}(الشعراء:3)، وقال: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}(فاطر:8)". وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى".

والسيرة النبوية زاخرة بالأمثلة الدالة على مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الناس جميعا إلى الله، وتبليغهم دعوة ورسالة ربه عز وجل، ومن ذلك:

دعوته لقومه وعشيرته :
صعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا لدعوة قومه إلى الله تعالى، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين}(الشعراء: 214) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج، أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش. فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي، تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب}(المسد: 1: 2)) رواه البخاري.

دعوة القبائل :
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك فرصة من الفرص أو مجال من المجالات إلا واستغلها في تبليغ دعوته للقبائل، فكان يعرض نفسه على القبائل في مواسم التجارة والحج, يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عز وجل، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟) رواه أحمد. وعن ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس بمنى في منازلهم، قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول:يا أيها الناس إن الله عز وجل يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، قال: ووراءه رجل يقول: هذا يأمركم أن تدعوا دين آبائكم، فسألت من هذا الرجل، فقيل: هذا أبو لهب) رواه أحمد.
قال ابن هشام في السيرة النبوية: "ولما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل كعادته، فالتقى برهط من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام .. قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام".

دعوة الملوك والأمراء:
قام النبي صلى الله عليه وسلم بإرسال عدد من الرسائل إلى ملوك وأمراء العالم المعاصرين له خارج الجزيرة العربية يدعوهم فيها إلى الإسلام، وقد كان بعضهم يجهل الإسلام مثل كسرى ملك الفرس، وبعضهم ينتظره مثل قيصر ملك الروم، كما أرسل كتابا إلى المقوقس ملك مصر، والمنذر بن ساوى ملك البحرين، وجيفر وعبد ابني الجلندي صاحبي عمان، وكانت هذه الرسائل تحمل وتبين مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم الشديد على هداية وإسلام هؤلاء الملوك والأمراء، فعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي ـ وهو غير الذي صلى عليه ـ وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل) رواه مسلم.

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حصول الهداية الكافرين وأولادهم :
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار) رواه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (ميقات أهل نجد)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) رواه البخاري.
وفي هذا الموقف النبوي: الرحمة بالمدعو والشفقة عليه ـ وإن كافرا أو عاصيا ـ، والحرص على هدايته وهداية ذريته، وقد ظهر هذا المعنى جليا حين قال الطفيل رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، إن دوسا (قبيلة الطفيل) قد عصت وأبت فادع الله عليهم)، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهداية وقال: (اللهم! اهد دوسا وائت بهم) رواه مسلم. قال القاري: "(اللهم اهد دوسا وائت بهم) أي: إلى المدينة مهاجرين، أو قربهم إلى طريق المسلمين، وأقبل بقلوبهم إلى قبول الدين". وهذا يدل على مدى رحمته وشفقته صلوات الله وسلامه عليه حتى مع الكافرين وحرصه على هدايتهم، قال الكرماني: "ودعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهداية في مقابلة العصيان، والإتيان بهم في مقابلة الإباء (الامتناع عن الإسلام)". وهذا من رحمته وكمال خلقه العظيم، وحرصه على هداية الناس أجمعين.

لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة في حرصه الشديد على هداية الناس جميعا، فدعا قومه والقبائل الأخرى، والملوك والأمراء، بل دعا الناس جميعا إلى الإسلام، وكان يدعو في المسجد والطريق، وفي أسواق العرب ومواسم الحج، وفي الحضر والسفر، والصحة والمرض، وعندما يزور أو يزار، وكان يوجه دعوته إلى من أحبوه ووالوه، وإلى من أبغضوه وعادوه، وذلك كله حرصا منه صلى الله عليه وسلم على دعوة الناس وهدايتهم إلى الله، ولذا قال الله تعالى عنه وعن رسالته وبعثته: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء:107).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة