ذم التعالم

0 1235

الحمد لله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير وهاديهم إلى صراط الله المستقيم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من المعلوم من دين الله تعالى أن الله عز وجل أمرنا عند ورود المسائل بالرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43)}(النحل). وقال تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}(النساء، من الآية:83).

ذم التعالم والتحذير من القول على الله بغير علم
ولقد نبتت في بلاد المسلمين نابتة سوء لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، لكنهم مع ذلك يدعون العلم وليسوا له بأهل، ويتجاسرون على الفتوى، ويتكلمون في المسائل التي لو عرضت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.هؤلاء هم المتعالمون الذين يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور".(البخاري).

ومن عجيب أمر هؤلاء المتعالمين أنهم لا يتورعون عن الفتوى في كل ما يرد عليهم ولا يحسن أحدهم أن يقول لا أدري، مع أن الأئمة الذين أجمعت الأمة على فضلهم وعلمهم وإمامتهم كانوا يقولون في كثير من المسائل: لا ندري.
هذا الهيثم بن جميل يقول: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
ويقول أبو بكر بن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول: لا أدري...
وإنما تورعوا عن الفتوى وأكثروا من قول لا أدري لعلمهم أن المفتي إنما يوقع عن الله تعالى فاستشعروا عظم المسؤولية بين يديه.

وقد حذر الشرع المطهر من القول على الله تعالى بغير علم، قال الله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (الأنعام:144)، وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33)}(الأعراف).
فالقول على الله تعالى بغير علم من أعظم الذنوب، روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
(إن التعالم الكاذب هو عتبة الدخول على جريمة القول على الله بغير علم، المحرمة لذاتها تحريما أبديا في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وهو مما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد التحذير.
فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرأون القرآن، يقولون: " من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ " ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " هل في أولئك من خير؟ " قالوا: " الله ورسوله أعلم " ، قال: " أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار". (حسنه الألباني في صحيح الترغيب).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -:
" إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم... ".(الحديث، رواه البخاري).
وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل".(البخاري).

وأفضح ما يكون للمرء دعواه بما لا يقوم به، وقد عاب العلماء ذلك قديما وحديثا:
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: (يلزم ولي الأمر منعهم -أي من الفتيا- كما فعل بنو أمية) إلى أن قال: (وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب ومداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟!).
فينبغي لمن تصدى للتعليم والإفتاء أن يكون أهلا لذلك، وإلا فهو خائن للأمانة، ينطبق عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة "، قيل: " كيف إضاعتها؟ " قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".(البخاري).

واسمع إلى العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى حين يجأر بالشكوى من هذا الصنف من المتعالمين الذين يجترئون على كتاب رب العالمين بلا مؤهلات، حين يقول في عمدة التفسير: (أما في عصرنا فقد نابت نوائب، ونبتت نوابت، ممن استعبدوا لآراء المبشرين وأهوائهم، وممن جهلوا لغة العرب إلا كلام العامة وأشباههم، وجهلوا القرآن فلم يقرأوه، ولا يكادون يسمعوه إلا قليلا، وجهلوا السنة، بل كانوا من أعدائها. وممن سخروا من علم علماء الإسلام ، وسفهت أحلامهم، ومردت ألسنتهم على قولة السوء في سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بل لا يؤمنون بالغيب إلا قليلا. هؤلاء وأشباههم وأمثالهم اجترأوا على العبث بالقرآن، واللعب بالسنة، فعرضوا لتفسير القرآن، وزعموا لأنفسهم الاجتهاد الجاهل، يفتون الناس ويعلمونهم اللعب والعبث، وينزعون من قلوبهم الإيمان. لا أقول إن هؤلاء وأولئك يفسرون القرآن بأهوائهم؛ فإنهم أضعف من أن تكون لهم أهواء وأشد جهلا، بل بأهواء سادتهم ومعلميهم من المبشرين والمستعمرين أعداء الإسلام...).
وأخيرا فليعلم هؤلاء المجترئون على الله تعالى بالقول عليه بغير علم أنهم على خطر عظيم وهم مرتكبون لواحدة من عظائم الذنوب: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ۚ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116)}(النحل).

نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة