احتساب الأنبياء (2-2)

0 949

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد:
فقد ذكرنا في المقال السابق كيف كانت قضية الاحتساب من أنبياء الله على أقوامهم من أهم القضايا والمهام التي قاموا بها خير قيام، فقد كانت أعمار الأنبياء كلها احتساب
أعمار الأنبياء كلها احتساب:
قضى الرسل عليهم السلام أعمارهم كلها منذ أن بعثهم الله تعالى، وأوحى إليهم إلى أن لقوا الله تعالى - في وظيفة الاحتساب والإصلاح، ومقاومة الفساد والإفساد، حتى مكث نوح عليه السلام محتسبا على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ولما أهلك الله تعالى المكذبين مكث محتسبا على المؤمنين ما شاء الله تعالى.

فليعلم من احتسب على الناس مرة أو مرتين، أو سنة أو سنتين ثم كف عن ذلك، أن الرسل عليهم السلام ما توقفوا عن الاحتساب على الناس حتى فارقوا الدنيا.

ولقي الرسل عليهم السلام في سبيل احتسابهم أنواع الصدود والأذى؛ فنوح عليه السلام سخر منه قومه، ونبذوا أتباعه، وإبراهيم عليه السلام ألقي في النار، ورمي هود عليه السلام بالجنون، واتهم موسى عليه السلام بالسحر، وطارده فرعون وجنده، وكاد شعيب عليه السلام أن يرجم لولا منعة رهطه، وقتل زكريا ويحيى عليهما السلام، وطورد الرسل وأتباعهم بسبب احتسابهم على أقوامهم، فتلك سنة الله تعالى في المحتسبين أن ينالهم من الأذى على أيدي المفسدين والمستكبرين ما ينالهم.

ومن عادة المستكبرين والمفسدين محاولة إغراء المحتسبين بدنيا يبذلونها لهم مقابل إيقاف احتسابهم عليهم، وإخراس أصواتهم، وشراء أقلامهم، وما كان الرسل عليهم السلام ليقبلوا المساومة في دينهم، ولا تركوا الاحتساب لكمال دنياهم بنقص دينهم، وكان سليمان بن داود عليهما السلام قدوة للمحتسبين في ذلك؛ إذ رفض مصانعة ملكة سبأ له بالهدية مقابل الكف عن الاحتساب عليها وقومها {فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} (النمل: 36 - 37).

رفض الحسبة هو مسلك المشركين:
الرسل عليهم السلام جاءوا أقوامهم بما لم يعهدوا، ونهوهم عما تعودوا؛ ولذا أنكر المشركون ما جاءتهم به رسلهم، وقال قائلهم: {أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا} (الأعراف: 70)، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم قدموا ما توارثوه عن آبائهم على ما جاءتهم به رسلهم {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} (المائدة: 104).

ومع ذلك فإن الظاهر من أحوال المشركين في كل الأمم السالفة أنهم ما رفضوا تنسك الأنبياء وتعبدهم، ولا أنكروا عليهم عدم مشاركتهم في شركهم، ولا ألزموهم بعبادة أصنامهم، وإنما أنكروا عليهم أمرهم بالمعروف الذي رأسه توحيد الله تعالى، ونهيهم عن المنكر الذي غايته شركهم بالله تعالى؛ مما يدل على أن ما يسمى في العصر الحاضر بالحرية الدينية أو الفكرية أو الشخصية كان موجودا عند المشركين، وهذا ما لا يفهمه كثير من الناس فيستغربونه وقد ينكرونه.

إن الرسل عليهم السلام ما نزلوا من السماء، ولا جاءوا إلى الأرض من غيرها، ولا نزحوا إلى قبائلهم من خارجها، بل هم من صليبة أقوامهم: ولدوا فيهم، وعاشوا بينهم، حتى أرسلهم الله تعالى إليهم، وقبل بعثهم أنبياء كانوا يرون أقوامهم على الشرك، وما كانت الرسل لتشرك بالله تعالى شيئا فقد عصمهم الله تعالى من الشرك قبل بعثتهم وبعدها، ولو قدر وقوع الشرك منهم لاحتج به المشركون عليهم لما دعتهم رسلهم إلى التوحيد، ولقالوا لهم: أتنهوننا أن نعبد ما كنتم تعبدون معنا؟ ولما احتاج المشركون إلى إحالتهم على ما كان يعبد الآباء.

إن المشركين ما كان يجبرون الرسل قبل مبعثهم على عبادة أصنامهم، وإلا لوجدت العداوة بين المشركين وبين الرسل قبل أن يبعثوا، ولنقل ذلك.

بل ما حكاه القرآن يدل على أن الرسل كانوا على وفاق مع أقوامهم قبل أن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ومن أدلة ذلك قول قوم صالح عليه السلام: {يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} (هود: 62).

فهذه تزكية منهم لصالح عليه السلام، وثناء عليه إلى أن أمرهم ونهاهم، فرفضوه، وتنكروا له، وانقلبوا عليه.

ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام تحكي سيرته الخالدة أنه اجتنب المشركين وما يعبدون، وكان يتعبد لله تعالى في غار حراء، وما نقل أن المشركين أنكروا ذلك عليه، أو ضايقوه في عبادته، أو ألزموه بشركهم. بل كان عليه الصلاة والسلام محل إعجابهم وثنائهم، وموضع تقديرهم وثقتهم؛ حتى إنهم كانوا يستودعونه أماناتهم، ويحكمونه بينهم، ولقبوه بالأمين.

وكان في مكة قبل المبعث بعض الحنفاء الذين بقوا على دين إبراهيم عليه السلام، ومنهم من تنصر وقرأ الإنجيل بالعبرانية كورقة بن نوفل، وما عرف أن أهل الشرك من كبار قريش كانوا يؤذونهم، أو يجبرونهم على الشرك، أو يحولون بينهم وبين عبادتهم.

كل هذا يدل على أن أكثر المشركين كانوا يتحلون بما يسمى في هذا العصر بالحرية الدينية أو الفكرية أو الشخصية، وما نقموا على من يوحد الله تعالى أن يوحده إذا لم يأمرهم أو ينههم.

كما يدل على أن الذي نقمه أكثر المشركين من رسلهم، وعارضوهم فيه، وآذوهم من أجله هو ما يسمى في هذا العصر بالتدخل في الخصوصيات، وهي التي أمر الشارع الحكيم رسله عليهم السلام أن يتدخلوا فيها بالأمر والنهي، فيأمروهم بكل معروف، وينهوهم عن كل منكر، وقد أنكر المشركون هذا الأمر والنهي بشدة، وحاربوا رسلهم من أجله، قال قوم شعيب عليه السلام له: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} (هود: 87).

فهم ما نقموا عليه إلا تدخله في خصوصياتهم- بزعمهم -، وتقييده لحرياتهم في عباداتهم وأموالهم، وهذا ما يرى المشركون أنه عين الإفساد لأقوامهم، كما قال فرعون أخزاه الله تعالى: {ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} (غافر: 26).

ولذا فإن الاحتساب على الناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هو دين الله تعالى الذي جاءت به الرسل، وهو سبب العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أن وجد على الأرض حق وباطل، وأهل الحسبة من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل زمان ومكان هم أتباع الرسل، والمعارضون للحسبة والأمر والنهي الشرعيين هم أتباع المشركين، أعداء المرسلين، أو متشبهون بهم، أرادوا ذلك أو لم يريدوه.

المحتسبون هم أنصح الناس للناس:
أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء؛ لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.

ومن نظر في سير الأنبياء عليهم السلام ظهرت له تلك الحقيقة؛ إذ إن الأنبياء عليهم السلام وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس غير.

قال نوح عليه السلام وهو يدعو قومه: {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} (الأعراف: 62)، وقال هود عليه السلام: {أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين} (الأعراف: 68)، وقال صالح عليه السلام: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} (الأعراف: 79)، وقال شعيب عليه السلام: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين} (الأعراف: 93).

وأغش الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويحبون نشر الفاحشة؛ لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء، وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.

والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسبة تدخل فيما لا يعني، فما أضعف عقولهم، وما أشد ضلالهم وانحرافهم؛ إذ كيف تكون الحسبة تدخلا فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!

والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهوات؛ لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن أنواع الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.

وتلك الحجة السمجة التافهة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل عليهم السلام يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } (هود: 87)

أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟ والمفسدون في هذا العصر يكررون تلك المقولة بهذه الصورة أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشاءون دون قيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!!.

إنها نفس الحجة التي احتج بها الأقدمون، فكانت سببا في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.

إن من نظر في سير الأنبياء عليهم السلام، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاص متنوعة، وإن كان الشرك موجودا في كل الأمم التي عذبت؛ ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك.

وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضارة المعاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنكرات المجتمعة؛ رفعا للعذاب، وإصلاحا للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذن بجميعها؟!.

فمن قاوم في هذا العصر مجالات المفسدين كلها، فأنكر على الكفار كفرهم ودعاهم للإسلام، وأنكر على العاصين معصيتهم وأمرهم بالطاعة، وأنكر على الظلمة ظلمهم وأمرهم بالعدل، وأنكر على المسرفين إسرافهم، وعلى أهل الفساد المالي فسادهم، وعلى أصحاب الفواحش والمروجين لها فحشهم وفجورهم. وما من فساد إلا وله فيه إنكار بقول أو فعل فقد اقتدى بالأنبياء كلهم، وسار سيرتهم، وامتثل قول الله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} (الأنعام: 90)، وكفى بذلك شرفا وفضلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(بتصرف يسير جدا)

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة