سجود الشُكْر في السيرة النبوية

0 5

السجود لله عز وجل شكرا من السنن النبوية، ويشرع سجود الشكر للمسلم عند حدوث نعمة ظاهرة له، أو لعموم المسلمين، أو اندفاع بلية ظاهرة عنه، أو عن عموم المسلمين، قال النووي: "سجود الشكر سنة عند تجدد نعمة ظاهرة، واندفاع نقمة ظاهرة، سواء خصته النعمة والنقمة، أو عمت المسلمين"، وقال الشوكاني: "فإن قلت: نعم الله على عباده لا تزال واردة عليهم في كل لحظة؟ قلت: المراد النعم المتجددة التي يمكن وصولها ويمكن عدم وصولها، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد إلا عند تجدد تلك النعم مع استمرار نعم الله سبحانه وتعالى عليه وتجددها في كل وقت".
وقال ابن عثيمين: "من المعلوم أن نعمة الله سبحانه وتعالى لا تحصى، كما قال الله تبارك وتعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}(النحل:18).. ولو كلف الإنسان أن يسجد عند كل نعمة منها لبقي ساجدا مدى الدهر، لكن هناك نعم تتجدد للإنسان، كإنسان ولد له، أو تسهل له الزواج، أو قدم له غائب ميئوس منه، أو حصل له مال أو ما أشبه ذلك من النعم التي تتجدد أو بشر بنصر المسلمين، أو ما أشبه ذلك، فهذا يستحب للإنسان أن يسجد لله تبارك وتعالى شكرا له".
وفي كتاب "الشمائل الشريفة" من الجامع الصغير للسيوطي وشرحه للمناوي": "(كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمر يسر به خر ساجدا شكرا لله) عن أبي بكرة ـ صح ـ: (كان إذا جاءه ـ لفظ رواية الحاكم ـ أتاه أمر) أي عظيم كما يفيده التنكير، يسر به خر ساجدا شكرا لله، أي سقط على الفور هاويا إلى القاع سجدة لشكر الله تعالى على ما أحدث له من السرور، ومن ثم ندب سجود الشكر عند حصول نعمة واندفاع نقمة، والسجود أقصى حالة العبد في التواضع لربه وهو أن يضع مكارم وجهه بالأرض وينكس جوارحه، وهكذا يليق بالمؤمن كلما زاده ربه محبوبا ازداد له تذللا وافتقارا، فبه ترتبط النعمة ويجتلب المزيد {لئن شكرتم لأزيدنكم}(إبراهيم:7)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم أشكر الخلق للحق لعظم يقينه فكان يفزع إلى السجود".

والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف الدالة على سجود النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم سجدة الشكر لله عز وجل في بعض المواقف والأحداث، ومن ذلك:

ـ روى الترمذي في سننه، والبيهقي في الدلائل، والذهبي في "تاريخ الإسلام"، وابن القيم في "زاد المعاد" وغيرهم، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالدا (يرجعه ويرده)، وقال: مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب ومن شاء فليقبل. قال البراء: فكنت فيمن عقب (بقي) مع علي، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى رسول الله بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على همدان).
ـ عن نفيع بن الحارث الثقفي أبو بكرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خر ساجدا شكرا لله تبارك وتعالى) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
ـ عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فأطال السجود، قال صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل قال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكرا) رواه الحاكم وصححه الألباني. وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "وفي "المسند" من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد شكرا لما جاءته البشرى من ربه، أنه من صلى عليك، صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه".
ـ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبا من عزوراء نزل ثم رفع يديه فدعا الله ساعة ثم خر ساجدا فمكث طويلا ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدا فعله ثلاثا وقال: إني سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي، فأعطاني الثلث الآخر، فخررت ساجدا لربي) رواه أبو داود وضعفه الألباني، وحسنه ابن حجر.
ـ عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بحاجة فخر لله ساجدا) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.

الصحابة وسجود الشكر:

في غزوة تبوك لما نزلت الآيات القرآنية التي بينت توبة الله عز وجل على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزوة بغير عذر شرعي ـ وكان منهم كعب بن مالك ـ، يقول كعب رضي الله عنه: (سمعت صوت صارخ يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، فلما ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) رواه مسلم.
قال ابن القيم في ذكر بعض الفوائد من موقف كعب بن مالك رضي الله عنه: "ومنها: استحباب سجود الشكر عند حصول نعمة، أو اندفاع نقمة ظاهرة".
وذكر سعيد بن منصور: "أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سجد حين جاءه قتل مسيلمة الكذاب".
وروى عبد الرزاق في مصنفه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتاه فتح من قبل اليمامة فسجد".

سجود الشكر سنة نبوية، يفعلها المسلم عند تجدد وحدوث نعمة ظاهرة، أو اندفاع نقمة ظاهرة، سواء خصته هذه النعمة والنقمة، أو عمت المسلمين ـ كما قال النووي وغيره ـ، ولم يرد في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص سجود الشكر بدعاء معين، والمشروع فيه: التسبيح، وحمد الله وشكره بأي صيغة كانت، لأن المقام مقام حمد وشكر لله عز وجل، قال ابن تيمية: "لا يجب فيه ذكر معين، وإنما يشرع للساجد أن يقول في سجوده ما يناسب المقام، من حمد الله وشكره ودعائه واستغفاره، ونحو ذلك"، وقال الشوكاني: "فإن قلت: لم يرد في الأحاديث ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم في سجود الشكر، فماذا يقول الساجد للشكر؟ قلت: ينبغي أن يستكثر من شكر الله عز وجل، لأن السجود سجود شكر". وقال ابن عثيمين: "واختلف العلماء رحمهم الله، هل تشترط له الطهارة أو لا؟ والصحيح أنها لا تشترط، وذلك لأن هذا يأتي بغتة والإنسان غير متأهب فلو ذهب يتوضأ لطال الفصل بين السبب ومسببه".
قال ابن القيم في زاد المعاد: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسر، أو اندفاع نقمة، كما في "المسند" عن أبي بكرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره، خر لله ساجدا شكرا لله تعالى)".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة