الوراقون في الحضارة الإسلامية (1)

0 651

في سنة 854هـ/1450م؛ أخرج العالم الألماني يوهان غوتنبرغ للناس اختراعه "المطبعة". وبقدر ما كان هذا الإنجاز فتحا تقنيا غير وجه التاريخ الثقافي للعالم؛ فإنه سجل أيضا بداية النهاية للمنظومة التي أبدعت أعظم ظاهرة ثقافية أهدتها الحضارة الإسلامية للإنسانية، وأنتجت أغنى تراث علمي عرفته البشرية حتى العصر الحديث؛ إنها ظاهرة: "الوراقة والوراقين".
في هذا المقال؛ سندخل عالما كان -على مدار أكثر من ألف عام- نابضا بالحيوية والإبداع، وحافلا بالجدل والصخب الثقافي، ولا يخلو من الحقائق المدهشة والطريفة؛ لنرصد كيف دارت ماكينة إنتاج الكتاب في العالم الإسلامي، وكيف احترف مهنة نسخ الكتب علماء كبار وأمراء مشاهير وربات بيوت سعيا لتحصيل دخل يوفر لقمة العيش، وكيف شارك في هذه الصناعة ناسخون من أديان أخرى ساهموا في نشر الأعمال الإسلامية.

أمة اقرأ:
جاء الإسلام وقد عرف العرب القراءة والكتابة على نطاق ضيق، والترجمة من اللغات الأخرى في حدود أضيق؛ ولكن الدين الجديد -بما تضمنه القرآن والسنة من إشادة بالعلم والعلماء- كان من أول لحظة إيذانا بميلاد "أمة اقرأ"، التي ستملأ الأرض علما ومعارف وتشغل الناس ثقافة وآدابا.
فقد اكتمل جمع القرآن وتدوينه في خلافة أبي بكر الصديق (ت 13هـ) فكان ذلك إشارة لأهمية التدوين العلمي في حياة الأمة؛ ولكن القرن الأول بأجمعه ظل قرنا للرواية الشفهية لنصوص الإسلام (قرآنا وسنة) ولغته العربية، ولم يشهد حركة تدوين للمعارف المنبثقة منهما إلا في حالات محدودة.
ومع بزوغ شمس القرن الثاني الهجري (100-200هـ) الذي يعرف بـ"عصر التدوين"؛ تفجرت ينابيع العلوم واكتملت دورة إنتاجها الشفهي، فكان لا بد من استيعابها في أطر صلبة تنقلها من الصدور إلى السطور، فتحفظها من الضياع وتجعلها قابلة للتداول بين الناس والتوارث بين الأجيال.
وقد أدت فتوح الإسلام إلى الاختلاط بحضارات مغايرة ونظم ثقافية متباينة في الملل والنحل في العراق وفارس والشام ومصر؛ فجرت مع أصحابها مناظرات جدلية ومثاقفات علمية، واحتيج إلى الترجمة عن لغاتها والاقتباس من مناهجها في الحجاج بما يعين على المغالبة الثقافية، فازدهرت سوق الترجمة وتوسعت حتى شملت آنذاك أكثر من عشر لغات، فازداد بذلك نشاط التدوين والنشر اتساعا.

وتعزز ازدهار الكتابة والتدوين بعاملين مهمين: أولهما المكانة العالية التي حازها "كتاب الدواوين" (وزارات الدولة وإدارتها) منذ العصر الأموي وازدادت أهميتها أيام ورثتهم العباسيين؛ وثانيهما استخدام الورق في الكتابة مع مطلع العهد العباسي، ذلك الاستخدام الذي ترسخ ببناء أول مصنع للورق ببغداد أيام هارون الرشيد في سبعينيات القرن الثاني.
وبذلك عرف الناس "صناعة الكتاب" بشقيه: "الأصيل" المؤلف و"الدخيل" المترجم، ثم سرعان ما أصبحت "صناعة الكتاب" صنعة من صنائع المدنية في الحضارة الإسلامية تدعى "الوراقة"؛ فتخصصت فيها طائفة وافرة تسمى "الوراقين" ضمت في عضويتها كافة أطياف المجتمع الفكرية والأدبية، وطوائفه الدينية والمذهبية؛ ووضعت لها ضوابط وأعراف، وخصصت لها أماكن وأسواق، ونشأت في فضائها فروع وتخصصات، وتحصلت منها لأصحابها أموال وثروات.

عميد الوراقين:
من الناحية التاريخية؛ ارتبطت "الوراقة" -في بدئها ‏بوصفها مهنة- باحتراف نسخ القرآن الكريم تكسبا، فقد ذكر النديم (ت 384هـ) في كتابه ‘الفهرست‘ أن الناس "كانت تكتب المصاحف بأجرة"، وكان أول من عرف بتخصصه في ذلك عمرو بن نافع مولى عمر ‏بن الخطاب‏، لكن النديم عزا إلى المؤرخ محمد بن إسحق (ت 151هـ) أن "أول من كتب المصاحف في الصدر الأول -ويوصف بحسن الخط- خالد بن أبي الهياج"، لعمله "وراقا" للخليفة الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ).
بيد أن أول من أطلق عليه لقب "الوراق" -فاستحق بذلك علينا أن ندعوه "عميد الوراقين"- هو مطر بن طهمان (ت 129هـ) الذي اشتهر بـ"مطر الوراق"، ويقال إنه كان من موالي علي بن أبي طالب. كما أن معاصره مساور بن سوار الكوفي (ت نحو 150هـ) "كان وراقا ينسخ الكتب". ‏‏
ومع أواسط القرن الثاني؛ انضم إلى نسخ القرآن جمع الحديث النبوي، وتوثيق فتاوى الصحابة والتابعين، وتدوين لغة العرب وأشعارها؛ فظهرت "مصنفات" في شتى العلوم، ومن أوائل تلك المؤلفات -مما وصل إلينا نصه موثق النسبة- "الموطأ" للإمام مالك بن أنس، و"الرسالة" للإمام الشافعي، و"المبسوط" للإمام محمد بن الحسن الشيباني، و"الكتاب" في النحو لسيبويه الفارسي، وقاموس "العين" للفراهيدي، و"مختارات" من أشعار العرب مثل "المفضليات" و"الأصمعيات".

وأدت كثرة طلاب العلم وازدياد انشغال العلماء بإقبالهم على التأليف إلى اتخاذ بعض الأئمة "وراقا" أو ‏"كاتبا" خاصا به كما اتخذ كل شاعر "راوية" لديوانه؛ فكان مثلا حبيب بن أبي حبيب وراقا للإمام مالك (ت 179هـ)، وعرف محمد بن سعد (ت 230هـ) بأنه "كاتب ‏‏الواقدي" المؤرخ (ت 207هـ).‏
وقد انتشرت لاحقا عادة عمت جميع طبقات العلماء والأدباء بل وحتى الخلفاء والأمراء، وهي اعتماد وراقين محددين ‏كما يعتمد المؤلفون الكبار في عصرنا ناشرا معينا لطباعة كتبهم. فقد كان محمد بن أبي حاتم وراقا للإمام البخاري (ت 256هـ)، وأحمد بن محمد النباجي وراقا للإمام يحيى بن معين (ت 233هـ). وورد أن الخليفة العباسي المعتمد (ت 284هـ) "كان له وراق يكتب شعره بماء الذهب".
وقد يكون لبعضهم وراقان كما كان للواقدي ولأبي عبيد القاسم بن سلام مؤلف كتاب "الأموال" (ت 224هـ)، ولأبي داود (ت 275هـ) صاحب "السنن" وراقان أحدهما ببغداد والثاني بالبصرة، وللجاحظ (ت 255هـ) وراقان: أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى وأبو يحيى زكريا بن يحيى.

تألق وازدهار:
وبحلول نهاية القرن الثاني؛ كانت "صناعة الوراقة" -بتعبير ابن خلدون (ت 808هـ)- قد بلغت شأوا بعيدا في الانتشار وسلكت طريقها نحو الازدهار في القرن الثالث، بحيث تحددت فروعها بأنها شاملة "للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتبية والدواوين" مثل بيع الورق والقراطيس، وصارت لهم "دكاكين" تضمها "أسواق الوراقين" التي "اختصت بـها الأمصار العظيمة العمران". وبعضهم عمل في مكتبات الدولة مثل "بيت الحكمة" ببغداد، و"دار العلم" بالقاهرة، و"خزانة العلوم" بقرطبة.
وقبل ابن خلدون بأربعة قرون؛ حدد أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ) -في رسالة لأحد أصدقائه- بعض أدوات صنعة الوراقة ومشمولاتها الداخلة في عمل الناسخين المجودين؛ فذكر منها "الحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة ‏والتصحيح".‏ على أنه في عصور انحطاط الوراقة صار معروفا أن "غالب من يكون خطه حسنا لا يخلو عن الجهل".
ويكفي أن نتذكر أن الجاحظ -حسبما رواه صديقه الشاعر أبو هفان العبدي (ت 257هـ)- كان "يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر". ووصف الرحالة المقدسي البشاري (ت 380) أهل الأندلس بأنهم "أحذق الناس في الوراقة"، فراجت ببلادهم سوقها لما كان لهم بها من شغف واحتفال، حتى إن القاضي والوزير القرطبي أبا المطرف ابن فطيس (ت 402هـ) اتخذ "ستة وراقين دائمين" ينسخون له الكتب.

وقد عمل في هذه المهنة آلاف الوراقين من الرجال والنساء، ومن جميع طبقات المجتمع من كبار العلماء والأدباء وأبناء الملوك السابقين -بل والأمراء- إلى الموالي والأرقاء. فمن مشاهير العلماء الذين عملوا وراقين تكسبا: الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) الذي كان "ينسخ الكتب للناس بأجرة" ليسد فاقته أيام طلبه العلم، والإمام النحوي القاضي المعتزلي أبو سعيد السيرافي (ت 368هـ) كان "ينسخ الكتب بالأجرة ويعيش منها".
وعرف إمام الحنابلة في زمنه ابن مروان البغدادي (ت 403هـ) بـ"الوراق" ‏لأنه كان "ينسخ الكتب ويقتات من أجرتها"، متعففا عن هدايا السلاطين. وورد أن الإمام أبا حامد الغزالي (ت 505هـ) "كان ينسخ الكتب والمصاحف.. ويبيعها".

ومن الأمراء الذين "احترفوا" الوراقة -وهم في السلطة- السلطان الشهيد نور الدين زنكي (ت 569هـ) الذي كان "يأكل من عمل يده فكان .... ينسخ الكتب". ومن أبناء الملوك الأمير شرف الدولة يحيى بن المعتمد بن عباد الذي مارس نسخ الكتب -بعد زوال سلطان عائلته بإشبيلية- ووصف بأنه "مثابر على نسخ الدواوين". ووصلتنا أجزاء من نسخة "الموطأ" التي كتبها لسلطان المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين (ت 537هـ)
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة