ذنوب القلوب

0 1154

عندما تذكر المعاصي لا يخطر ببال الكثيرين إلا المعاصي الجسدية، ويغفلون عن ما هو أشد منها، وهي المعاصي القلبية.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (واعلم أن كثيرا من الناس يسبق إلى ذهنه من ذكر الذنوب: الزنا والسرقة ونحو ذلك، فيستعظم أن كريما يفعل ذلك، ولا يعلم هذا المسكين أن أكثر عقلاء بني آدم لا يسرقون، بل ولا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم... ولكن الذنوب تتنوع وهي كثيرة الشعب، كالتي من باب الضلال في الإيمان، والبدع التي هي من جنس العلو في الأرض بالفساد، والفخر والخيلاء والحسد والكبر والرياء، التي هي في الناس الذين هم متفقون على ترك الفواحش).

خطورة المعاصي القلبية:
إن ذنوب القلوب ومعاصيها أكبر وأشد خطرا على صاحبها من ذنوب الأبدان، ولهذا قدم العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" الحديث عن كبائر ذنوب القلوب على الكبائر الظاهرة التي ترتكب بالجوارح، معللا ذلك بقوله: (الباب الأول: في الكبائر الباطنة وما يتبعها، وقدمتها؛ لأنها أخطر، ومرتكبها أذل العصاة وأحقر، ولأن معظمها أعم وقوعا، وأسهل ارتكابا، وأمر ينبوعا، فقلما ينفك إنسان عن بعضها، ولقد قال بعض الأئمة: كبائر القلوب أعظم من كبائر الجوارح؛ لأنها كلها توجب الفسق والظلم، وتزيد كبائر القلوب بأنها تأكل الحسنات، وتوالي شدائد العقوبات).

ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله: (والمحرمات التي عليه - يعني القلب - أشد تحريما من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة).
وتلك المعاصي تمرض القلب (ومرض القلب وشقاؤه أعظم من مرض الجسم وشقائه).

أقسام المعاصي القلبية وأمثلتها:
ذكر ابن القيم أن المحرمات القلبية ضربان :
الأول: ما يكون كفرا، كالشك، والنفاق، والشرك، وتوابعها.
الثاني: ما يكون معصية دون الكفر، وهي نوعان:

أولا: كبائر: ومثـل لها ابن القيم بالرياء، والعجب والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم.
ثم قال : (وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن.. وهذه الأمور قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها).

ويشهد لما ذكره ابن القيم من أن معاصي القلوب في الجملة أعظم من المعاصي الظاهرة قوله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا، لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك، العجب". (البيهقي).
وقوله لأصحابه وأمته من بعدهم: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء". (أحمد).

ثانيا: صغائر: ومثل لها ابن القيم رحمه الله تعالى بشهوة المحرمات وتمنيها، فقال: (ومن الصغائر أيضا شهوة المحرمات وتمنيها، وتتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر، بحسب تفاوت درجات المشتهي، فشهوة الكفر والشرك كفر، وشهوة البدعة فسق، وشهوة الكبائر معصية، فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب، وإن تركها عجزا بعد بذله مقدوره في تحصيلها، استحق عقوبة الفاعل...).

وقد دلت أدلة الكتاب والسنة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء العلماء من تحريم هذه الذنوب.
فمن الآيات القرآنية الدالة على بعض المحرمات القلبية، قوله سبحانه: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}(الأعراف:99).
وقوله: {قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}(الحجر: 56).
وقوله: {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون}(يوسف: 87).
وقوله: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم}(الحجرات: 12).
وقوله: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}(آل عمران: 154).

ومن الأحاديث النبوية في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". (رواه مسلم).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل ينازع الله إزاره، ورجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العز، ورجل في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله". (رواه أحمد).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".(رواه مسلم).
 وقوله صلى الله عليه وسلم: "الكبائر الشرك بالله والإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله
". (رواه البزار).

إنك ترى في هذه الأدلة كيف أن هذه الذنوب القلبية تجر على صاحبها العقوبات وتنسبه إلى الأوصاف الذميمة.
والواقع في دنيا الناس أن كثيرا منهم يغفلون عن تلك المحرمات القلبية علما وعملا، ومن ثم لا يستحضرونها عند تجديد التوبة من الذنوب. ونتيجة لهذا الجهل وتلك الغفلة، قد يتلطخ القلب بأدناس هذه المعاصي، وصاحبه لاه غافل، فيمرض القلب وربما مات وصاحبه لا يشعر: وما لجرح بميت إيلام

يقول ابن القيم: (وأكثر المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها، ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب، ليتوبوا منها! فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر، واحتقارهم، وصولة طاعاتهم ومنتهم على الخلق بلسان الحال، واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم، اقتضاء لا يخفى على أحد غيرهم، وتوابع ذلك ما هو أبغض إلى الله وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك).

وإنه ليخشى أن يكون للغافل عن المعاصي القلبية نصيب من قوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون . وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}(الزمر:48).
كما أنها قد تكون سببا في سوء الخاتمة، يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: (خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة لا يطلع عليها الناس).

من أسباب السلامة من ذنوب القلوب:
من أراد أن يتجنب الوقوع في المعاصي القلبية، فعليه أن يعمر قلبه بالطاعات القلبية؛ كمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والإخلاص، والتوكل، والخوف، والرجاء، والصبر، والرضا، والشكر، والصدق، والحياء، والإنابة، ونحوها، فهي سد منيع يحجز من امتلأ قلبه منها عن الوقوع في المعاصي القلبية، ومما يعين المسلم على ذلك أمور، منها:

قراءة القرآن الكريم بتدبر وتفكر:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة، والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله).
وقال العلامة السعدي رحمه الله: (تدبر القرآن يزيد في علوم الإيمان وشواهده، ويقوي الإرادة القلبية، ويحث على أعمال القلوب من التوكل والإخلاص، والتعلق بالله، الذي هو أصل الإيمان).

المدوامة على ذكر الله عز وجل:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من أراد محبة الله عز وجل، فليلهج بذكره.
قال سبحانه جل في علاه: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.

طلب العلم الشرعي:
قال الله عز وجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر:28)، فمن طلب العلم ونيته الانتفاع به، وتزكية نفسه، أورثه العلم الخشية والتعظيم لله.

الدعاء والتضرع:
فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسالك قلبا سليما".(أحمد، والترمذي).

المسارعة إلى التوبة
امتثالا لقول الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون}(النور:31).

نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من كل ما لا يرضيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة