- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
التيسير مقصد عظيم من مقاصد الإسلام وشريعته، والغرض منه الإعانة على القيام بأمر الله عز وجل وعبادته، قال الله تعالى: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج}(الحج:78)، قال ابن كثير: "أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء فشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، فالصلاة - التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين- تجب في الحضر أربعا وفي السفر تقصر إلى ثنتين.. وتصلى رجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.. وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط بعذر المرض، فيصليها المريض جالسا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات، في سائر الفرائض والواجبات، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: بعثت بالحنيفية السمحة، وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن: "بشرا ولاتنفرا، ويسرا ولا تعسرا". وقال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}(البقرة:185)، قال السعدي: "أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أبلغ تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله. وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهله تسهيلا آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات. وهذه جملة لا يمكن تفصيلها، لأن تفاصيلها، جميع الشرعيات، ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات".
واليسر والتيسير كما أنه مقصود من مقاصد الإسلام، فهو هدي من هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسنة من سنته، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا) رواه مسلم. قال الصنعاني: "فالمعنى أن الله تعالى لم يبعثني مشددا على الغير، ملزما له ما يصعب عليه أداؤه ولا طالب لزلته". وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه دائما بالتيسير، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) رواه مسلم. قال النووي: "إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع الأحوال، وهذا هو المطلوب".
وتخفيف الصلاة رحمة بالضعفاء والمرضى وأصحاب الحاجات مظهر من مظاهر الرحمة النبوية، وصورة من صور التيسير التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه بها. والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف الدالة على ذلك، ومنها:
ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز (أخفف) في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) رواه البخاري. وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه) رواه البخاري. وفي رواية في صحيح مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة، أو بالسورة القصيرة). قال النووي: "الوجد يطلق على الحزن وعلى الحب أيضا وكلاهما سائغ هنا، والحزن أظهر، أي من حزنها واشتغال قلبها به، وفيه دليل على الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع ومراعاة مصلحتهم، وأن لا يدخل عليهم ما يشق عليهم وإن كان يسيرا من غير ضرورة". وقال القاضي عياض: "وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرفق بأمته، والرأفة بهم، كما وصفه الله عز وجل به لقوله: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}(التوبة: 128). وفيه التيسير في أمور الدين وغيرها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يسروا ولا تنفروا)".
ـ عن أبي مسعود ـ عقبة بن عمرو بن ثعلبة ـ رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إني والله لأتأخر عن صلاة الغداة (الصبح) من أجل فلان، مما يطيل بنا فيها، قال: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ، ثم قال: يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليوجز، فإن فيهم الكبير، والضعيف، وذا الحاجة) رواه البخاري، وفي رواية: (فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة). قال ابن بطال: " فيه: دليل أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمر رسول الله لهم بذلك، وقد بين في هذا الحديث العلة الموجبة للتخفيف، وهى غير مأمونة على أحد من أئمة الجماعة، فإنه وإن علم قوة من خلفه، فإنه لا يدرى ما يحدث بهم من الآفات، ولذلك قال: (وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء)، لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره.. فينبغي للأئمة التخفيف مع إكمال الركوع والسجود".
ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع فيؤمنا ـ قال مرة: ثم يرجع فيصلي بقومه ـ، فأخر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الصلاة ـ وقال مرة: العشاء ـ فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يؤم قومه، فقرأ البقرة، فاعتزل رجل من القوم فصلى، فقيل: نافقت يا فلان! فقال: ما نافقت، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن معاذا يصلي معك، ثم يرجع، فيؤمنا يا رسول الله! وإنما نحن أصحاب نواضح (الإبل التي يستقى عليها)، ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا فقرأ بسورة البقرة، فقال: يا معاذ! أفتان أنت؟ أفتان أنت؟ اقرأ بكذا، اقرأ بكذا.. وفي لفظ ب {سبح اسم ربك الأعلى}، {والليل إذا يغشى}) رواه أبو داود وصححه الألباني. وفي رواية للنسائي وصححها الألباني: (فأقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال أفاتن أنت، لا تطول بهم، اقرأ بهم {سبح اسم ربك الأعلى}، {والشمس وضحاها} ونحوهما). قال النووي: "(أفتان أنت يا معاذ) أي منفر عن الدين وصاد عنه، ففيه الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه وإن كان مكروها غير محرم، وفيه جواز الاكتفاء في التعزير بالكلام، وفيه الأمر بتخفيف الصلاة والتعزير على إطالتها إذا لم يرض المأمومون". وقال الطيبي: "(أفتان أنت؟) استفهام على سبيل التوبيخ، وتنبيه على كراهية صنيعه، وهو إطالة الصلاة المؤدية إلى مفارقة الرجل الجماعة فافتتن به.. وفيه دلالة على أنه ينبغي للإمام أن يخفف الصلاة، ولا يطولها بحيث يتأذى القوم منها". وفي "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": "وفي رواية ابن عيينة: (أفتان أنت؟) بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار، ومعناه: أنت منفر، لأن التطويل سبب لخروجهم من الصلاة، وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله: (فتان) أي: معذب، لأنه عذبهم بالتطويل كما في قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات}(البروج: 10)".
ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) رواه البخاري. وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أم قوما فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده، فليصل كيف شاء) رواه مسلم. وقد بوب النووي لهذا الحديث بقوله: (أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام)، ثم قال: "معنى أحاديث الباب ظاهر، وهو الأمر للإمام بتخفيف الصلاة، بحيث لا يخل بسنتها ومقاصدها، وأنه إذا صلى لنفسه طول ما شاء". وفي رواية لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم). أي: اجعل أضعف القوم مقياسا لصلاتك. قال الطيبي: "يعني كما أن الضعيف يقتدي بصلاتك فاقتد أيضا أنت ضعفه، واسلك سبيل التخفيف في القيام والقراءة". وقال المباركفوري: "(فإن فيهم الكبير) في السن. (وإن فيهم الضعيف) كالصبيان والنسوان أو ضعيفي الأبدان، وإن لم يكن مريضا أو كبيرا. (وإن فيهم ذا الحاجة) أي المستعجلة. وفي تكرير "إن" إشارة إلى صلاحية كل للعلة".
التيسير بصفة عامة سنة نبوية، غير أنه لا يكون في إثم أو معصية، فليس من التيسير المطلوب أو المشروع تبديل بعض الأحكام، أو التنازل عن قيم ومفاهيم وأحكام إسلامية ثابتة بغية التيسير على الناس وتأليف قلوبهم على الإسلام، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) رواه البخاري. قال القاضي عياض: "فيه الأخذ بالأيسر والأرفق، وترك التكلف وطلب المطاق، إلا فيما لا يحل الأخذ به"، وقال النووي: "فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراما أو مكروها".
ومن المعلوم والثابت أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، وصلى تارة من طوال المفصل، وتارة أخرى من أوسطه، وطوال المفصل من (الحجرات) إلى (البروج)، والأوسط منها إلى {لم يكن}(البينة)، والقصار منها إلى آخر القرآن. وقد أمر معاذا رضي الله عنه أن يصلي ب {سبح اسم ربك الأعلى} و{والليل إذا يغشى}، وليس في ذلك تعارض، لأنه وقع منه ذلك باختلاف الحالات والأوقات والمأمومين، وقد جمع ابن حجر في "فتح الباري" بين هذه الأحاديث النبوية التي فيها أمر الأئمة بالتخفيف في الصلاة، والأحاديث التي فيها بيان طول صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين". وقال ابن خزيمة: "هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف في القراءة".
ولما كان الغالب، ألا يخلو حال المصلين من وجود أحد من أصحاب الأعذار (المريض، الكبير، الضعيف، صاحب الحاجة) جاءت الأحاديث النبوية للأئمة بأمرهم وحثهم على التخفيف في الصلاة، مراعاة لأحوال المأمومين وظروفهم، ثم ينبغي أن يعلم أن هذه الأحاديث ليست حجة لبعض الأئمة للإخلال بركن الطمأنينة في الصلاة، والذي تبطل الصلاة بالإخلال به، فعليهم التمييز والتفريق بين وجوب الطمأنينة في كل أركان الصلاة، وبين التخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. وخير الهدي هدي نبينا صلى الله عليه وسلم القائل: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، والقائل: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء).

المقالات

