صلاة النبي مأموماً خلف عبد الرحمن بن عوف

0 1137

في رجب من السنة التاسعة للهجرة النبوية كانت غزوة تبوك، آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سميت بغزوة تبوك، وغزوة العسرة، وذلك لصعوبة وشدة الظروف التي وقعت فيها أحداثها، من شدة الحر وبعد المكان، وقلة المال والدواب، وقد عنون البخاري لهذه الغزوة بقوله: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة). وقد شهدت هذه الغزوة العديد من المواقف والأحداث التي وقعت في أثناء ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إليها ورجوعه منها، وكان فيها الكثير من المواقف والدروس والعبر، قال ابن حجر في "فتح الباري" في كلامه عن غزوة تبوك: "وهي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها وكانت مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فضحوا، وحكاية الثلاثة الذين خلفوا، فضلا عن أخبار المسير والحصار والمشقة التي كانت فيها، والأحداث التي صاحبتها".

ومن المواقف التي وقعت في هذه الغزوة: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مأموما خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم فتبرز (ذهب إلى مكان بعيد لقضاء حاجته) ثم جاء فسكبت على يده من الإداوة (إناء صغير من جلد فيه ماء) فغسل كفيه ثم غسل وجهه ثم حسر (كشف) عن ذراعيه فضاق كما جبته (نوع من الثياب) فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة فغسلهما إلى المرفق، ومسح برأسه ثم توضأ (مسح) على خفيه (حذاء من جلد يستر القدم)، ثم ركب فأقبلنا نسير حتى نجد الناس (وجدنا الناس، وعبر بالمضارع استحضارا للصورة الغريبة في نظره) في الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حين كان وقت الصلاة، ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته ففزع المسلمون فأكثروا التسبيح لأنهم سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: قد أصبتم - أو قد أحسنتم ـ) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وفي رواية مسلم: (ومسح بناصيته (مقدم الرأس من الجبهة) وعلى العمامة وعلى خفيه). أي: إنه صلى الله عليه وسلم لم يمسح على شعر رأسه أو يغسل رجله، ولكنه اكتفى بالمسح بالماء على عمامته ولم يرفعها عن رأسه، وكذلك مسح على خفيه.
 
هذا الموقف الذي حدث في أثناء ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فيه الكثير من الفوائد، ومنها:

قال ابن عبد البر: "فيه اقتداء الفاضل بالمفضول، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته".
وقال النووي: "اعلم أن هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، منها: جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته، ومنها: أن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت فإنهم فعلوها أول الوقت ولم ينتظروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن الإمام إذا تأخر عن أول الوقت استحب للجماعة أن يقدموا أحدهم فيصلي بهم إذا وثقوا بحسن خلق الإمام وأنه لا يتأذى من ذلك، ولا يترتب عليه فتنة.. ومنها: أن من سبقه الإمام ببعض الصلاة أتى بما أدرك، فإذا سلم الإمام أتى بما بقي عليه ولا يسقط ذلك عنه بخلاف قراءة الفاتحة فإنها تسقط عن المسبوق إذا أدرك الإمام راكعا. ومنها: اتباع المسبوق للإمام في فعله في ركوعه وسجوده وجلوسه وإن لم يكن ذلك موضع فعله للمأموم. ومنها: أن المسبوق إنما يفارق الإمام بعد سلام الإمام والله أعلم. وأما بقاء عبد الرحمن في صلاته وتأخر أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم (في مرضه قبيل وفاته)؟ فالفرق بينهما أن في قضية عبد الرحمن كان قد ركع ركعة فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف قضية أبي بكر رضي الله عنهما والله أعلم".
وفي شرح الزرقاني عل موطأ الإمام مالك: "(فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:أحسنتم) إذ جمعتم الصلاة لوقتها، ويحتمل أنه أراد أن يسكن ما بهم من الفزع، قاله الأصيلي، وقد زاد مسلم (يغبطهم) أن صلوا لوقتها بالتشديد، أي يحملهم على الغبطة لأجل ذلك، ويجعل هذا الفعل عندهم مما يغبط عليه، وإن روي بالتخفيف فيكون قد غبطهم لتقدمهم وسبقهم إلى الصلاة، قاله ابن الأثير. قال ابن عبد البر: وفي قوله: (أحسنتم) أنه ينبغي شكر من بادر إلى أداء فرضه وعمل ما يجب عليه، وفضل عبد الرحمن إذ قدمه الصحابة بدلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وفيه اقتداء الفاضل بالمفضول، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته".

وفي هذا الموقف فضيلة ظاهرة ومنقبة جليلة لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وذلك في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلفه مأموما، فقد ذكر السيوطي في كتابه "الخصائص الكبرى"، وابن سعد في "الطبقات" وغيرهما: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى خلف عبد الرحمن بن عوف: (ما قبض نبي قط حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته)". وقال ابن الجوزي في كتابه "كشف المشكل من حديث الصحيحين" عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "أسلم قديما، وهاجر الهجرتين، ولم يفته مع رسول الله مشهد، وثبت مع رسول الله يوم أحد، وصلى رسول الله خلفه، كان قد ذهب في غزوة تبوك للطهارة، فجاء وعبد الرحمن قد صلى بهم ركعة، فصلى معه وأتم الذي فاته، وقال: (ما قبض نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته). وروى عن رسول الله خمسة وستين حديثا، أخرج له منها في الصحيحين سبعة أحاديث".
ومن المعلوم أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة، فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة: أبو بكر في ‏الجنة، وعمر في الجنة، وعلي، وعثمان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن، وأبو عبيدة، وسعد بن ‏أبي وقاص، قال: فعد هؤلاء التسعة، وسكت عن العاشر، فقال القوم: ننشدك الله يا أبا ‏الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله، أبو الأعور في الجنة) رواه أبو داود وصححه الألباني. وأبو الأعور: هو سعيد بن زيد رضي الله عنه راوي الحديث.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة