واعظ الله في القلب

0 701

أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك! لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم".

قال ابن تيمية رحمه الله: (فقد بين في هذا الحديث العظيم الذي من عرفه انتفع به انتفاعا بالغا -إن ساعده التوفيق- واستغنى به عن علوم كثيرة أن في قلب كل مؤمن واعظا، والوعظ هو الأمر والنهي، والترغيب والترهيب).
قال الحسن رحمه الله: (إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه...).
وقال: (من كان له واعظ من نفسه كان له من الله حافظ، فرحم الله من وعظ نفسه وأهله...).
وقال ابن سيرين رحمه الله: (إذا أراد الله تعالى بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه).
إن هذا الواعظ الداخلي في قلب المؤمن هو السبيل إلى الإقبال على الخير وترك الشر والفجور والظلم والإثم، كما قال الشاعر:
لن ترجع الأنفس عن غيها       ما لم يكن لها منها زاجر

لأن هذا الواعظ في الحقيقة يكون حارسا ورقيبا على صاحبه لا يفارقه، يحصي عليه أفعاله، يجعله يزن بميزان دقيق يميز الخير من الشر، والبر من الإثم. إنه الضمير الذي يوجه نشاط المسلم، وهو الذي يظهره الله تعالى للعلن والحساب والجزاء يوم القيامة {يوم تبلى السرائر} (الطارق:9).
إن هذا الواعظ حين يقوى في قلب المؤمن سيدعو صاحبه إلى طاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه، والله تعالى يوفقه لذلك ويؤيده بملك يقذف في قلبه إلهامات الخير.
وهو الذي يشعر صاحبه المراقبة الدائمة واطلاع الله تعالى عليه في كل أحواله {إن الله كان عليكم رقيبا}(النساء:1). {وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير}(الحديد:4). {ألم يعلم بأن الله يرى}(العلق:14).

يقول الشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى: (فيقظة الضمير، ودقة الشعور، وحياة الوجدان، جعلها الإسلام قوام صلاح الفرد، وديدبانا(رقيبا وحارسا) قائما لا يغفل، يحصي عليه خواطره وهواجسه، وألفاظه وكلماته، وأعماله وتصرفاته..).
كما أن هذا الواعظ الداخلي في نفس المؤمن يقوي الشعور بحضور الملائكة الكرام الكاتبين الذين يكتبون كل ما يصدر من العبد، وأن هذا المكتوب سيعرض على صاحبه فيقرأه بنفسه ويسأل عنه ويجازى به {وإن عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمون ما تفعلون} (الانفطار:10-12) {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية:29). {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق:18). {وكل شيء فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر}(القمر:52-53). {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ۖ ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (14)} (الإسراء:13-14). {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}(الكهف:49).

إن هذا الواعظ الداخلي – الضمير – هو الذي يحمل صاحبه على محاسبة نفسه في كل أحواله، قبل العمل بمراقبة الباعث على العمل، هل هو إرادة وجه الله تعالى؟ أم إرادة الثناء والمجد والجاه عند المخلوقين؟ كما قال الحسن رحمه الله تعالى: (كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت فإن كان لله أمضاه). وقال: (رحم الله تعالى عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر).
كما يحاسب نفسه أثناء العمل وبعده، ويحاسب نفسه على طاعة لله قصر فيها ولم يوقعها على الوجه الذي ينبغي، وعلى كل عمل كان تركه خيرا من فعله..ويحاسب نفسه على المناهي، فإن فعل شيئا منها تداركه بالتوبة والاستغفار وفعل الحسنات الماحية؛ فإن الله تعالى يمحو الخبيث بالطيب{وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}(هود:114).

إن هذه اليقظة لواعظ الله في القلب هي صفة رئيسة للمؤمن يبينها الحسن البصري فيقول: (المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة). ويقول: (إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وفي جوارحه...).
إن هذا الواعظ في قلب المؤمن هو الذي يجعله يسر بحسنته وتسوؤه سيئته، وينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن".

إنه داع إلى التصويب الذاتي للسلوك، والتقويم الذاتي للنفس الإنسانية بحيث لا تنساق وراء الأهواء والنزوات بلا رادع يردعها عما يشينها في الدنيا والآخرة.
إن تربية وتنمية هذا الواعظ أو الضمير هي التي تخرج الإنسان الحق من البشر، وهي التي تحول النفس الأمارة بالسوء إلى نفس أمارة بالخير..إنها تربية إلى الحد الذي لا يكتفي صاحبه بالندم بعد الوقوع في خطأ أو معصية، بل يدفعه إلى اختيار سبيل الحق وملازمة طريق التقوى في سلوكه مع الله تعالى، ومع الخلق، وأقصر سبيل إلى تربية هذا الواعظ في النفوس هو تربية الإيمان في النفوس، وهو أمر شاق ليس بالأمر الهين.

إن بناء المصانع والمدارس والسدود والمنشآت سهل ومقدور عليه، ولكن الأمر الشاق حقا هو بناء الإنسان .. الإنسان القادر على نفسه، المتحكم في شهواته، الذي يعطي الحياة كما يأخذ منها، ويؤدي واجبه كما يطلب حقه، الإنسان الذي يعرف الحق ويؤمن به ويدافع عنه، ويعرف الخير ويحبه للناس كما يحبه لنفسه، ويتحمل تبعته في إصلاح الفساد، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتضحية النفس والمال في سبيل الحق.
إن صنع هذا الإنسان أمر عسير غير يسير.
ولكن الإيمان وحده هو صانع العجائب، الإيمان هو الذي يهيئ النفوس لتقبل المبادئ الخيرة مهما يكمن وراءها من تكاليف وواجبات، وتضحيات ومشقات، وهو العنصر الوحيد الذي يغير النفوس تغييرا تاما، وينشئها خلقا آخر. ويصبها في قالب جديد، فيغير أهدافها وطرائقها، ووجهتها وسلوكها وأذواقها ومقاييسها، ولو عرفت شخصا واحدا في عهدين -عهد الكفر وعهد الإيمان- لرأيت الثاني شخصا غير الأول تماما، لا يصل بينهما إلا الاسم، أو النسب أو الشكل.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة