كيف يرقى الأدب؟

0 470

يذهب بعض المفكرين إلى أن الفنون — ومنها الأدب — ترتقي وتنحط، وتعلو وتسفل، وتتقدم وتتأخر، في الأمم اعتباطا من غير أن يكون لذلك أسباب، أو على الأقل أسباب ظاهرة؛ فالناظر لتاريخ الفنون في العالم يرى أن أمة في عصر من العصور قد ترقى في فن من الفنون كالإنشاء الأدبي أو الحفر أو التصوير أو الشعر، على حين أن أمة أخرى ترقى في فن آخر من هذه الفنون، ثم بعد رقي عظيم تنحط الأمة في هذا الفن، ويحل محل الفن فن آخر، أو لا يحل محله شيء؛ وتتبادل الأمم ذلك من غير أن يكون لهذا التقدم وهذا التأخر علة مفهومة.

وشأن الفنون شأن النابغين النابهين، فقد ينبغ النابغ في أمة ولا نعرف لم نبغ؟ وكيف نبغ؛ وتحاول الأمة أن توجد نابغا عظيما فلا يتسنى لها ذلك، بل ترى الأمر عجبا؛ فقد يوجد النابغة والأمة على أسوأ ما يكون من ضعف في الحال، وضعف في العقل؛ ثم ترقى الأمة عقلا وترقى خلقا وتتلفت فلا تجد نبوغا، وكان مقتضى هذا أن يكثر عدد النابغين فيها ويزدادوا نبوغا بازدياد الأمة رقيا؛ ولكن ينعكس الأمر حتى لتجد الأمة وأعضاؤها قوية ولا رأس، بينما كان لها في حال ضعفها رأس قوي ولا أعضاء، ما ذاك إلا لأن النابغة يوهب ولا يتخلق؛ وقد قال هؤلاء: إن الفنون في ذلك ليست كالعلوم، فالرقي في العلوم سبيله ميسور ممهد، وتستطيع الأمة أن تضع لها خطة تسير عليها لترقى في الطبيعة أو الكيمياء أو الرياضة، فإذا هي جدت في ذلك وصلت إلى درجة من الرقي تناسب جدها واستعدادها؛ ولكنها لا تستطيع أن تضع خطة تسير عليها للرقي في الشعر والأدب والتصوير؛ لأن ذلك نوع من الإلهام، والإلهام بيد الله، يمنحه من يشاء كيف شاء متى شاء.

ولعل الكاتب يشعر بهذا تمام الشعور في نوع ما يكتب؛ فهو إذا أراد أن يكتب بحثا علميا، أو يحقق لفظا لغويا، أو يحرر حادثا تاريخيا، فهو في أكثر أوقاته مستعد لذلك، ما لم يكن مريضا أو مهموما؛ ولكنه إذا شاء أن يكتب قطعة فنية أدبية إنشائية لا يستطيع ذلك إلا في حالة نفسية صافية، ومزاج يتناسب والقطعة الفنية التي ينشئها، من حزن أو سرور، وحلم أو غضب؛ ويصادفه وقت هو كما يسمونه وقت تجل، يجيد فيه ويغزر، ويسمو فيه ويصفو.
ويعجب كيف أجاد وكيف غزر؛ ثم هو يحاول بعد مرارا أن يوجد مثل هذا التجلي، فيفشل ثم يفشل؛ ويحار في تعليل ذلك، وتعليله ... أنه في العلم مالك وقته يصرفه كما يشاء، وهو في الأدب ينتظر الإلهام.

وقالوا: إن رقي الأمة في الأدب لا يرتبط بدرجة ثقافتها، ولا برقيها العقلي، ولا بأي سبب من الأسباب؛ فالأمة المصرية قديما رقيت في فنون النحت والنقش والبناء رقيا بديعا جعلها من أساتذة العالم في هذا الباب، وخلفت على مر الأزمان ثروة لا تقوم؛ ولا تزال قبلة الفنانين إلى الآن تستخرج إعجابهم، وتلهم أذواقهم؛ والمصريون الآن ليسوا أساتذة في الفن، حتى ولا تلامذة، مع أن أحدا لا يستطيع أن يقول: إن المصريين القدماء كانوا أرقى منا عقلا وأعلى ثقافة؛ وكذلك يشكو كثير من الأوربيين من أن الفن أخذ يتدهور من القرن السادس عشر، مع أن أنواع العلوم في رقي مستمر، وعقليات الأمم في تقدم دائم؛ ولو كان الأمر بالعلل والأسباب المنطقية لوجب أن يكون المصريون اليوم أعلى فنا وأكثر نبوغا، ولكان الفن الأوربي الآن أسمى وأتم منه في القرون الوسطى.
فأما وقد عجز المنطق عن تقديم مقدمات ونتائج صحيحة فليس إلا الإلهام، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر.

هكذا قالوا، أو حاولوا أن يقولوا، وبذا احتجوا، أو حاولوا أن يحتجوا؛ ولكن هل هذا صحيح؟ إن في هذا الرأي غلوا مفرطا؛ فهو يخرج الأدب عن دائرة الإرادة، ويجعله مجرد انتظار للإلهام؛ ومن الحق أن للأدب خطة تنتهج كمنهج العلم، وأن من نعده للأدب يجب أن نثقفه ثقافة خاصة كالذي نعده للعلم؛ ولكن من الحق أيضا أننا لا نوجد الأديب ببرنامجنا، بل لا بد أن يكون قد هيأته فطرة الله ومنحته استعدادات خاصة، وكفايات ممتازة، وهيأته لقبول الإلهام؛ ولكنه في كل ذلك كالعالم، فبرنامج العلم لا يوجد نابغة في العلم إنما يعده، والعالم لا بد أن يكون مهيأ للإلهام كالأديب؛ وأكثر المخترعات والمستكشفات في العالم كانت نتيجة إلهام أكثر منها نتيجة لمقدمات منطقية وتجارب علمية؛ وإنما التجارب تهيئ للإلهام وتحقق ما يأتي به، وتبين صحيحه من فاسده، وتسمي هذه الإلهامات فروضا.

ويظهر أن اتجاه هؤلاء الباحثين هذا الاتجاه سببه عقيدة سادت بين رجال الفن عهدا طويلا، وهي "أن الذوق لا يعلل"؛ فالناظر ينظر إلى الصورة فيستجملها أو يستقبحها، فإن أنت سألته: لم استجملها أو لم استقبحها؟ لم يحر جوابا؛ وإذا أجاب أجاب بكلمات منمقة، ولكنها جوفاء، لا تحوي علة ولا توضح سببا؛ وإنما هي نفس الدعوى بألفاظ رشيقة جميلة؛ وإذا رأيت طاقة من الزهر قلت: ما أجملها، ولكن إن سألت: لم كانت جميلة؟ قلت: إنها منسقة، إنها بديعة الألوان، إن نفسي لترتاح إلى رؤيتها، إنها لتسر النظر، وتبهر العقل؛ وأنت غني بعد عن أن أقول لك: إن هذه ألفاظ وجمل قد ترضي البلاغة، ولكن لا ترضي المنطق؛ وقد تعرض صورة أو يظهر إنسان أمام جمع من النظارة؛ فهذا يستحسنه وذاك يستقبحه، وثالث لا يستحسنه ولا يستقبحه، فإذا سألت من استحسن لم استحسن؟ ومن استهجن لم استهجن؟ ومن حايد لم حايد؟ كانت الإجابات مثارا للعجب، وموضعا للضحك.

وقد ترى إنسانا وكل عضو من أعضائه على انفراد جميل، ولكنه ليس جميلا ككل، فما الذي كونه هذا التكوين؟ وما الذي وضعه هذا الوضع؟ ولم استحسنته مفرقا؟ ولم تستحسنه جملة؟ لا شيء في الحقيقة إلا الذوق الذي لا يعلل، وهذا هو الشأن في الأدب؛ وأظهر مثل لذلك ما فعله عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، فماذا صنع؟ إنه يأتي بالبيت الجميل ثم يقف ويتساءل: فيم كان جماله؟ فما هو إلا أن يصوغ لك جملا رشيقة، فيقول: إن هذا اللفظ يروقك ويؤنسك، وغيره يثقل عليك ويوحشك، وهذا الوضع يبهرك جماله، وهذا النظم يأخذ بلبك ما فيه من نسج وصياغة، ووشي وتحبير؛ ويعلل سبب ذلك أحيانا بالتقديم والتأخير، وأحيانا بالفصل والوصل وكلها علل لا تصلح، فأنا كفيل بأن آتيك بتقديم يحسن، وتقديم مثله يقبح، وفصل يروعك، وفصل مثله يسوءك، وقد تحاول أن تفرق بينهم فلا تستطيع، ثم تسلم سلاحك وتكتفي بأن تقول: هذا جميل، وهذا قبيح، وهذا يحس في ذوقي وهذا لا يحس، وبذلك تكون قد قطعت شوطا بعيدا، ثم في آخر الأمر عدت إلى النقطة التي بدأت منها سيرك.

وما علوم البلاغة كلها إلا محاولة لتعليل الذوق الأدبي، ولكن هل أفلحت في التعليل؟ إنا لنخشى أن تكون قد دارت حول نفسها، ولم تأت بشيء؛ " لأن الذوق لا يعلل".
وإذا كان الذوق لا يعلل فكل ما ترتب عليه لا يعلل، وإذا كان الفن وليد الذوق فالفن لا يعلل، لا يعلل كيف ظهر وكيف قوي وكيف ضعف.
هكذا أيضا قالوا أو يصح أن يقولوا — وهذه الآراء — وإن كان فيها شية من الحق ليست حقا كلها، وليست حقا في أساسها؛ وقد بذل بعض العلماء المحدثين مجهودا حميدا في بيان ما فيها من حق وباطل، وحاولوا أن يفلسفوا الذوق، ويفلسفوا الجمال، ووضعوا للذوق والجمال علما، وعدوه فرعا من فروع الفلسفة، وحاربوا فيه الفكرة السائدة: "إن الذوق لا يعلل"، ووضعوا قواعد لتعليله نجحوا فيها أحيانا وفشلوا أحيانا، ولا يزال مجال البحث أمامهم فسيحا؛ وكان لهذا الاتجاه الجديد في علم الجمال أثر كبير في خلق نظريات في الأدب، ووضع أسس جديدة للبلاغة والنقد الأدبي مما ليس هذا موضعه.

والذي أميل إليه أن الفن نتيجة الذوق لا محالة، وأن الذوق يمكن تربيته وترقيته؛ فالطفل إذا لفت نظره إلى الأزهار وجمالها تكون فيه الميل إلى حبها والاستمتاع بها؛ فإذا كان بعد أدبيا اتصلت حياته الأدبية بها، وظهر في نتاجه الفني هذا الحب وهذا التقدير.
والذوق العام للأمة في قوته وضعفه ورقيه وانحطاطه، ليس يظهر فجأة ولا هو نتيجة المصادفة البحتة، إنما هو نتيجة لكل ما يحيط بالأمة من ظروف وأحداث، هو نتيجة النظم السياسية، والحياة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافة العقلية وغير ذلك. وإن شئت فقل: إن ذوق الأمة هو تعبيرها عما تقوم؛ فالأمة إذا قومت المناظر الطبيعية تذوقتها، وإذا قومت جمال الأزهار تذوقته، وإذا لم تقوم النظام في المجتمعات لم تتذوقه، ولم يجرح ذوقها تهويش على محاضر أو أديب قاص أو شاعر مجود، والأديب ليس إلا معبرا عن ذوق الأمة، والفنان ليس إلا الموقع للأصوات التي تستلذها الأمة.

على كل حال لا وسيلة لترقية الفن ومنه الأدب إلا بترقية الذوق، وربط الفن به، ولذلك وسائل:
• من أهمها التأذين في الناس بصوت عالي يهزهم هزا عنيفا حتى يشعروا بأن أذواقهم مريضة، لا يشعرون بالجمال كما ينبغي، ولا يهيمون بالحسن كما يجب؛ ولست أعني جمال الوجوه وحدها ولكن جمال الأزهار، وجمال الطبيعة، وجمال الحركة، وجمال النظام، وجمال النظافة، وجمال المعاني. ويجب ألا يقتصر دعاة الفن على الدعوة لجمال الأشياء التاريخية، والمساجد الأثرية؛ بل يجمعون إلى الدعوة لجمال الماضي جمال الحاضر وهذا أكثر وضوحا في الأدب، فدعوة الأدباء دائما وقول الأدباء دائما إنما هو إلى الماضي وفي الماضي، وهذا حسن لدرجة ما، ولكن يجب أن يقرن به الدعوة القوية أيضا إلى النظر إلى أنفسنا والقول في أنفسنا.
• يجب أن نغير تسعيرة الأشياء، ونضع تسعيرة جديدة لما يدور حولنا، ونضع أمام ناشئتنا قيما جديدة لما يقع عليه نظرهم؛ فإذا كانت بيوتنا تعني بكمية الأكل وتعطيها أكبر قيمة، وجب أن نرفع قيمة الكيفية فنضع قيمة لجمال الترتيب والنظام والجمال الحديث.
• يجب أن نوجه إرادتنا في ترقية الذوق كما نوجه إرادتنا لترقية العلم ولترقية النظام السياسي، ونضع للذوق برامج كالتي نضع لبرامج التعليم.
إنا إن فعلنا ذلك تمخض المجتمع عن فنان ماهر، وأديب قادر.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة