وأعرض عن الجاهلين

0 589

عندما وعظ لقمان ابنه كان مما وعظه به قوله: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك}(لقمان:17).
قال ابن كثير: "علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لا بد أن يناله من الناس أذى ، فأمره بالصبر".

ذلك أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يأمر الناس بتكاليف الشرع وربما لا تشتهيه أنفسهم، ولا يرضي أهواءهم، وينهاهم عن هوى النفس وملذات الحس المحرمة، فيسمع منهم ما يؤذيه، ويرى منهم ما لا يرضيه، فلزم أن يوطن نفسه على ذلك ولا يلتفت لكل قول أو فعل وإلا انقطع العمر في الأخذ والرد، وعاد الأمر بضرر أكبر.. ولهذا قال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، وهو أكبر الدعاة إلى الله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}(الأعراف:199).

وهذه الآية العظيمة تعد بلسما لكثير من الأدواء التي يبتلى بها كثير من العقلاء؛ حيث يبتلون بمن لا خلاق لهم من السفهاء الذين يثيرون حولهم الغبار، ويسيؤون إليهم بالكلام البذيء المؤذي. وخير علاج لتلك الإساءات هو الإعراض عن الجاهلين؛ فمن أعرض عنهم حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه.
ولهذا كان من وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}(الفرقان:63).

فهذا هو الوصف الثاني لهم بعد التواضع بالمشي على الأرض هونا وتواضعا لا بطرا وكبرا، فيأتي المظهر الخارجي الثاني لعباد الرحمن، بالإعراض عن الجاهلين، حتى صار فيهم سجية وطبعا لا كلفة فيه، وهو لسانهم الرطب ومنطقهم العذب، فلا يردون الإساءة بالإساءة، ولا التهمة بمثلها، وإنما آثروا السلام، وكأنهم لا يعلمون شيئا مما يقول الجاهلون.

ومع أن الإسلام شرع للمسلم أخذ حقه ممن ظلمه؛ إلا أنه يذكر هنا الأكمل لعباد الرحمن، خاصة الدعاة، فقد ظلموا من الجاهلين فكان المقابل السلام، وهو ما أمر الله به نبيه {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}(الأعراف:199).
قال جعفر الصادق – رحمه الله -: "ما في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية".

فوائد ومنافع الإعراض عن أهل الجهالة:
وقد جاء في كتاب مجالس تدبر القرآن، نقلا عن محمد بن إبراهيم الحمد، بعض فوائد ومنافع للإعراض عن جهل الجاهلين، وعدم مقابلة ذلك بمثله.. فكان مما قال:
بالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها، إذ يرفعها عن الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع، قال بعض الشعراء:
إني لأعرض عن أشياء أسمعها .. .. حتى يقول رجال إن بي حمقا
أخشى جواب سفيه لا حــياء له .. .. فسـل، وظن أناس أنه صــدقا

وقال أبو العتاهية:
والصـمت للمــرء الحلــيم وقــاية .. .. ينفي بها عن عرضه ما يكره
فكل السفيه إلى السفاهة وانتصف .. .. بالحلم أو بالصمت ممن يسفه

والعرب تقول: "إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر".
وروي أن رجلا نال من عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه - فلم يجبه، فقيل له: ما يمنعك منه؟.... قال: التقي ملجم.

مما يعين على ذلك
هذا وإن من أعظم ما يعين على الإعراض عن الجاهلين - زيادة على ما مضى -:
أولا: الترفع عن السباب؛ فذلك من شرف النفس، وعلو الهمة، كما قالت الحكماء: "شرف النفس أن تحمل المكاره كما تحمل المكارم".

قال الأصمعي: بلغني أن رجلا قال لآخر: والله لئن قلت واحدة لتسمعن عشرا. فقال الآخر: لكنك إن قلت عشرا لم تسمع مني واحدة".
وشتم رجل الحسن، وأربى عليه، فقال له الحسن: "أما أنت فما أبقيت شيئا، وما يعلم الله أكثر".

ثانيا: استحضار كون الإساءة دليل على رفعة شأن المساء إليه، وشرفه؛ فذلك مما يهون ما يلقى من سب وتجريح. 
قال الإمام الشافعي:
إذا سبني نــذل تزايدت رفــعة .. .. وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولو لم تكن نفسي علي عزيزة .. .. لمـكنتها من كل نــذل تحــاربه

ثالثا: الاستهانة بالمسيء؛ فذلك من ضروب العزة والأنفة، ومن مستحسن الأخلاق، ومن ذلك قول بعض الزعماء في شعره:
أوكلما طن الذباب طردته .. .. إن الذباب إذا علي كريم

وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لا يجيبه، فقال الساب: والله ما منع الأحنف من جوابي إلا هواني عليه.

وشتم رجل الأحنف، وجعل يتبعه حتى بلغ حيه، فقال الأحنف: يا هذا إن كان بقي في نفسك شيء؛ فهاته وانصرف؛ لا يسمعك بعض سفهائنا، فتلقى ما تكره.

وأسمع رجل ابن هبيرة فأعرض عنه، فقال: إياك أعني، فقال له: وعنك أغضي.

رابعا: أن يستحضر أن مجاراة السفهاء شر وبلاء، فهناك من إذا ابتلي بسفيه ساقط لا خلاق له، ولا مروءة فيه - أخذ يجاريه في سفهه وقيله وقاله، مما يجعله عرضة لسماع ما لا يرضيه؛ من ساقط القول ومرذوله، فيصبح بذلك مساويا للسفيه؛ إذ نزل إليه، وانحط إلى رتبته.
إذا جاريت في خلق دنيا .. .. فأنت ومن تجاريه سواء

قال الأحنف بن قيس: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشد منه.

خامسا: الإعراض عن الجاهلين إكرام للنفس، فيكرم المرء نفسه بذلك، ويكرم قرابة السفيه الأبرياء الأعزاء؛ لأنهم لا ذنب لهم، ولهذا قيل: لأجل عين تكرم ألف عين".

وقد يظن ظان أن الإعراض عن الجاهل والإغضاء عن إساءته - مع القدرة عليه موجب للذلة والمهانة، وأنه قد يجر إلى تطاول السفهاء!
وهذا خطأ؛ ذلك أن العفو والحلم لا يشتبه أي منهما بالذلة بحال؛ فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب الكرامة. أما الحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه، حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومكانة.

فالعفو إسقاط حقك جودا، وكرما وإحسانا؛ مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك؛ رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق. بخلاف الذل؛ فإن صاحبه يترك الانتقام عجزا، وخوفا ومهانة نفس؛ فهذا غير محمود، بل لعل المنتقم بالحق أحسن حالا منه؛ لأن من الناس من بلغت به الرقاعة واللؤم أن يفسر الإكرام والإغضاء بالضعف، وعليه يحمل قول أبي الطيب المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. .. وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

واستعمال العفو والانتصار للنفس، أو استعمال الحزم وأخذ الحق راجع إلى حكمة الإنسان، وتقديره الأمور، وتدبره للعواقب؛ فيعرف متى يأخذ بالحزم، ومتى يأخذ بالحلم.
وقد قال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} .. ثم قال: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة