الإيمان بما أخبر به النبيُّ مِنْ أمور غَيْبية

0 471

علم الغيبيات من الأمور التي استأثر الله عز وجل بها، واختص بها نفسه سبحانه، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل، قال الله تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}(النمل: 65)، وقال سبحانه: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}(الأنعام: 59).
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء والبشر لا يعلم الغيب، قال الله تعالى: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}(الأعراف:188). وقال سبحانه: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي}(الأنعام:50)، قال الطبري: "قل لهؤلاء المنكرين نبوتك: لست أقول لكم إني الرب الذي له خزائن السماوات والأرض، فأعلم غيوب الأشياء الخفية، التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء". وقال ابن كثير: "{ولا أعلم الغيب} أي: أي: ولا أقول: إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله عز وجل، لا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه".

والله عز وجل يطلع من يرتضيه من رسله على بعض الغيب متى شاء وإذا شاء، قال الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول}(الجـن:26: 27). قال البغوي: "{إلا من ارتضى من رسول} إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب". قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}(لقمان: 34): "هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علم الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا، علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها، {وما تدري نفس بأي أرض تموت} في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك". وقال السعدي في تفسيره لسورة "الجن" وذكره لما اشتملت عليه هذه السورة: ".. علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها، فلا يعلمها أحد من الخلق، إلا من ارتضاه الله واختصه بعلم شيء منها". ومن ثم فإذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من الأمور الغيبية، فإنما يخبر بشيء من علم الله عز وجل الذي خصه به وأطلعه عليه، وأوحى به إليه، ليكون برهانا ودليلا على نبوته رسالته.

جميع ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون ويقع بعده من أمر غيبي ـ كإخباره عن انتشار الإسلام، وفتح مصر، وأن ابنته فاطمة رضي الله عنها أول أهله موتا ولحوقا به، وإخباره أن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم سيموتوا شهداء.. وغير ذلك مما كثر في كتب السيرة والأحاديث النبوية ـ فوقع الأمر طبق ووفق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، فهو من معجزاته ودلائل نبوته عليه الصلاة والسلام. وكل ما ثبت وصح عنه صلى الله عليه وسلم من إخباره عن أمور غيبية ولم يقع بعد ـ كإخباره بخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشراط الساعة ـ وغير ذلك، فالإيمان به واجب على كل مسلم، وذلك من تحقيق الشهادة بأنه رسول الله، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}(النجم:4:3). ). قال البغوي: "يريد لا يتكلم بالباطل". وقال السعدي: "أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه، {إن هو إلا وحي يوحى} أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره، ودل هذا على أن السنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة}(النساء:113)، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى".

فائدة:

من أصول الإيمان بالله عز وجل ولوازمه، ومن مقتضيات "أشهد أن محمدا رسول الله" التصديق الجازم والتسليم الكامل بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور غيبية جاءت في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولو تعارضت هذه الأحاديث في ظاهرها مع العقل.. وذلك لأن أي حديث صحت نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتعارض مع العقل الصريح، لأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله عز وجل.. وقد كتب ابن تيمية كتابه "درء تعارض العقل والنقل" أو "بيان موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" وذكر فيه ـ كغيره من أهل السنة والعلماء ـ أنه لا يمكن أن يتعارض صحيح النقل (الأحاديث النبوية) مع صريح العقل (العقل السليم من الانحراف والشبه)، وإذا وجد ما يوهم التعارض بين النقل الصحيح في أمر غيبي أو غيره مع العقل، وجب تقديم النقل على العقل، لأن النقل ثابت، والعقل متغير، ولأن النقل معصوم، والعقل ليس كذلك.. ثم إن هذا التعارض يكون بحسب الظاهر لا في حقيقة الأمر، فإنه لا يمكن حصول تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح، وإذا وجد تعارض فإما أن يكون النقل غير صحيح أو العقل غير صريح، قال ابن تيمية: "الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول.. ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة".

أهل السنة يعلمون ويؤمنون بأن الأحاديث النبوية الصحيحة في إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور غيبية وحي من الله تعالى، يجب الإيمان بها وتصديقه فيها، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}(النجم:4:3). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب (فامتنعت عن الكتابة)، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حق) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وقد أظهر تصديق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ عامة ـ، وتصديق أبي بكر رضي الله عنه ـ خاصة ـ بالإسراء والمعراج وهو أمر غيبي لم يشاهدوه، قيامهم وتحققهم رضوان الله عليهم بمقتضى من مقتضيات "أشهد أن محمدا رسول الله" وذلك بتصديقه صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به من أمور غيبية وغيرها، طالما صح الخبر عنه صلى الله عليه وسلم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن آمن، وسعوا إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدقه! قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي الصديق) رواه الحاكم وصححه الألباني.

قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق. فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به، وإن لم يفهم معناه". وقال ابن قدامة المقدسي في "لمعة الاعتقاد": "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه، مثل حديث الإسراء والمعراج وكان يقظة لا مناما.. ومن ذلك أشراط الساعة، مثل خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله (يقتل عيسى ابن مريم عليه السلام الدجال كما في صحيح مسلم)، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل. وعذاب القبر ونعيمه..". وقال ابن عثيمين: "كان الصحابة رضي الله عنهم يؤمنون بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بما يشاهدونه بأعينهم أو أكثر".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة