معية الله

0 738

المعية من الصفات الثابتة لله عز وجل، وقد أجمع أهل السنة من السلف والخلف على إثباتها، وهي معية تليق بالله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به، وقد ذكر العلماء أن معية الله عز وجل لخلقه لا تنافي فوقيته، فإنه سبحانه وتعالى عليم بعباده، بصير بأعمالهم، مع علوه عليهم واستوائه على عرشه، لا أنه سبحانه مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض. قال الشيخ ابن عثيمين: "معية الله عز وجل لخلقة تليق بجلاله سبحانه وتعالى، كسائر صفاته، فهي معية تامة حقيقية، لكن هو في السماء". ومعية الله عز وجل ثابتة بالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومن ذلك:

أولا: الأدلة من القرآن الكريم:
1 ـ قال الله تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير}(الحديد:4). قال الطبري: "يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع". وقال السعدي: "{وهو معكم أين ما كنتم} كقوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} وهذه المعية، معية العلم والاطلاع".
2 ـ قال الله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا}(المجادلة:7). قال ابن كثير: "وعني بقوله: {هو رابعهم}، بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه". وقال البغوي: "أي: ما من شيء يناجي به الرجل صاحبيه، إلا هو رابعهم بالعلم. وقيل: معناه ما يكون من متناجين ثلاثة يسار بعضهم بعضا إلا هو رابعهم بالعلم، يعلم نجواهم".
3 ـ وقال الله سبحانه: {إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}(التوبة:40). قال ابن عباس: "{إن الله معنا} معيننا". وقال الماوردي: "{لا تحزن إن الله معنا} أي ناصرنا على أعدائنا". وقال السعدي: "{لا تحزن إن الله معنا} بعونه ونصره وتأييده".
4 ـ وقال الله تعالى لموسى عليه السلام: {قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون}(الشعراء15)، وقال سبحانه: {قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}(طه:46). قال ابن عباس: "{إنني معكمآ} معينكما". وقال القرطبي: "{إنني معكما} يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون". وقال السعدي: "{إنني معكما أسمع وأرى} أي: أنتما بحفظي ورعايتي أسمع أقوالكما وأرى جميع أحوالكما، فلا تخافا منه فزال الخوف عنهما، واطمأنت قلوبهما بوعد ربهما".

ثانيا: الأدلة من الأحاديث النبوية:

1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني) رواه البخاري. قال البيضاوي في "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة": "وقوله: (وأنا معه إذا ذكرني) أي: بالتوفيق والمعونة". وقال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "قوله: (وأنا معه إذا ذكرني) أي: بالتوفيق والمعونة". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "قوله: (وأنا معه إذا ذكرني) أي: بعلمي، وهو كقوله: {إنني معكما أسمع وأرى}(طه:46)".
2 ـ روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه) رواه البخاري. وفي رواية في صحيح مسلم: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى). قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم": "وقد يكون معنى قوله: (فإن الله قبل وجهه) على حذف المضاف، أي: أن قبلة الله المكرمة قبل وجهه". وقال ابن عبد البر في "الاستذكار": "وأما قوله: (فإن الله قبل وجهه إذا صلى) فكلام خرج على شأن تعظيم القبلة وإكرامها، كما قال طاووس: أكرموا قبلة الله عن أن تستقبل للغائط والبول". وقال الصنعاني: "(فإن الله قبل وجهه إذا صلى) أي ملائكته ورحمته تعالى مقابلة له، أو أن قبلة الله أي بيته الكريم، أو لأنه يناجى ربه.. والمناجي يكون تلقاء وجه من يناجيه، فأمر بصيانة الجهة كما لو كان يناجي مخلوق".
3 ـ وعن أنس رضي الله عنه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا! فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) رواه البخاري. قال الطيبي: "(ما ظنك باثنين الله ثالثهما) أي: جاعلهما ثلاثة بضم نفسه تعالى إليهما في المعية المعنوية التي أشار إليها بقوله سبحانه وتعالى: {إن الله معنا}". وقال ابن الجوزي: "(ما ظنك باثنين الله ثالثهما) أي بالنصرة والإعانة". وقال النووي: "(يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) معناه: ثالثهما بالنصر والمعونة". وقال العيني: "(ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!) أراد النبي صلى الله عليه وسلم: بالاثنين نفسه وأبا بكر، ومعنى ثالثهما: بالقدرة والنصرة والإعانة".

أقوال علماء السنة ـ من السلف والخلف ـ في "معية الله":

مما يؤكد تفسير أهل السنة ـ من السلف والخلف ـ لآيات وأحاديث المعية بأنها معية العلم والاطلاع، ما ورد عنهم من أقوال جمعوا فيها بين إثبات معية العلم وإثبات صفة العلو لله عز وجل، فبينوا بذلك عدم التعارض بين نصوص المعية والنصوص التي جاء فيها إثبات علو الله سبحانه على خلقه. والآثار والأقوال المروية عن أهل السنة وأئمة السلف في ذلك كثيرة، ومنها:
قال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم}: "هو على عرشه، وعلمه معهم". وقال الإمام مالك: "الله في السماء، وعلمه في كل مكان". وقال المزني (المتوفى: 264هـ) في "شرح السنة": "الحمد لله أحق من ذكر وأولى من شكر.. علا على عرشه في مجده بذاته، وهو دان بعلمه من خلقه، أحاط علمه بالأمور". وقال البربهاري (المتوفى: 329 هـ) في كتابه "السنة": "وهو جل ثناؤه واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وعلى عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان". وقال القيرواني (المتوفى:386هـ): "قال الإمام أبو محمد بن أبي زيد المالكي في "رسالته" في مذهب مالك: "وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه". وقال في كتابه المفرد في السنة: "وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه". وقال اللالكائي (المتوفى418هـ) في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة": "قال الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن الشافعي، في كتاب شرح أصول السنة له: "وأن الله على عرشه في السماء، قال عز وجل {إليه يصعد الكلم الطيب}، وقال {أأمنتم من في السماء}، وقال {وهو القاهر فوق عباده}، قال: فدلت هذه الآيات أنه في السماء وعلمه محيط بكل مكان".
وقال ابن القيم: "وقد أخبر الله أنه مع خلقه مع كونه مستويا على عرشه، وقرن بين الأمرين كما قال تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير}(الحديد:4). فأخبر أنه خلق السماوات والأرض، وأنه استوى على عرشه، وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه... فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه، بل كلاهما حق".
وصنف الإمام الذهبي كتاب "العلو" وكتاب "العرش" في إثبات علو الله على عرشه، وأنه مع خلقه بعلمه، وساق فيه الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم إلى قريب من زمانه، وحكى الإجماع عن كثير منهم على أن الله تعالى فوق عرشه، ومع الخلق بعلمه. ومما قاله في كتابه العلو: "ويدل على أن الباري تبارك وتعالى عال على الأشياء، فوق عرشه المجيد، غير حال بالأمكنة قوله تعالى {وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم}(البقرة:255)".

فائدة:

بين ابن تيمية في كتبه المختصرة والمطولة أنه لا تعارض بين معنى المعية وبين علو الله سبحانه وتعالى. فقال في العقيدة الواسطية: "ما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه قريب في علوه". وذكر في "مجموع الفتاوى" عقيدة السلف الصالح في المعية والعلو، وذكر مذاهب الفرق التي خالفت السلف في معنى المعية ثم قال: ".. الرابع: هم سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة من غير تحريف للكلم عن مواضعه. أثبتوا أن الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه (ليس حالا في مخلوقاته)، وهم بائنون منه، وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضا قريب مجيب.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. فهو مع المسافر في سفره مع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم".
وأجاب الشيخ ابن عثيمين في "شرح لمعة الاعتقاد" على دعوى أن أهل السنة أولوا صفة المعية فقال: "قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم} فقلتم: وهو معكم بعلمه، وهذا تأويل، فإن الله تعالى يقول: {وهو معكم}، والضمير في قوله: {وهو معكم} يعود إلى الله، فأنتم يا أهل السنة أولتم هذا النص وقلتم: إنه معكم بالعلم، فإذن كيف تنكرون علينا التأويل؟!.. قلنا: نحن لم نؤول الآية، بل إنما فسرناها بلازمها وهو العلم، وذلك لأن قوله: {وهو معكم} لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله عز وجل ويعرف عظمته، أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم، فإن هذا أمر مستحيل.. ومن نسب إلى أحد من السلف أن ظاهر الآية أن الله معهم بذاته في أمكنتهم فإنه بلا شك كاذب عليهم. إذن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وأنه مع خلقه كما قال في كتابه، ولكن مع إيماننا بعلوه. ولا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علما، وقدرة، وسلطانا، وسمعا، وبصرا، وتدبيرا، وغير ذلك من معاني الربوبية".

معية الله عز وجل على نوعين: معية عامة، ومعية خاصة:

1 - معية عامة: شاملة لجميع المخلوقات، فهي تشمل كل أحد، من مؤمن وكافر، وبر ووفاجر، ومن مقتضياتها: الإحاطة بجميع المخلوقات علما وقدرة، وسمعا وبصرا، وسلطانا وتدبيرا، وغير ذلك.. فهو سبحانه مع كل شيء بعلمه وقدرته، وقهره وإحاطته، لا يغيب عنه ولا يعجزه شيء، وهذه المعية المذكورة في قوله تعالى: {ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول}(النساء:108). وقوله سبحانه: {وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير}(الحديد:4)، وقوله سبحانه: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا}(المجادلة:7).
2 ـ أما المعية الخاصة فمثل قول الله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}(النحل: 128). وقوله سبحانه: {إن الله مع الصابرين}(البقرة:153). وقوله سبحانه: {واعلموا أن الله مع المتقين}(البقرة:194). وقوله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني). وقوله في قصة نبينا صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه: {إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها}(التوبة:40) وهذه المعية معية خاصة، وهي مقتضية للنصر والتأييد، والحفظ والعناية، والمحبة والتوفيق، والكفاية والهداية.. وما تقتضيه المعية الخاصة من فضل الله وعطائه لا يعلمه إلا الله عز وجل.. قال ابن تيمية: "والمعية معيتان: عامة وخاصة، فالأولى قوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم}، والثانية: قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}".
ولكل من المعيتين ـ العامة أو الخاصة ـ آثار جليلة وعظيمة، فبالنسبة للمعية العامة فإن من أهم آثارها: تربية المهابة في نفوس الناس من هذا الإله العظيم العليم بالسر وأخفى، ولا شك أن هذه المعية إذا استحضرها العبد في كل أحواله، فإنه يستحيي من الله عز وجل أن يراه حيث نهاه، أو أن يفتقده حيث أمره، فتكون عونا له على اجتناب ما حرم الله، والمسارعة إلى فعل ما أمر به من العبادات والطاعات.. وأما ما يتعلق بالمعية الخاصة، فمن آثارها: أن من كان الله معه فلا يغلبه أحد، فهو يتصل بمصدر القوة، وهي قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده. ولا يشعر صاحب المعية الخاصة بوحشة ولا ضعف لأن ربه سبحانه معه، يؤنسه ويثبته ويقويه، فهو يستشعر من خلال هذه المعية الخاصة الرضا والاطمئنان، والعزة والقوة، كما قال موسى عليه السلام لما حاصره فرعون وجنوده: {إن معي ربي سيهدين}(الشعراء:62).

منهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات اتباع السلف الصالح، وحاصل مذهبهم ومنهجهم أن الله سبحانه وتعالى يثبت له من الأسماء الحسنى والصفات العلى ما ثبت في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وصفة المعية من الصفات الثابتة لله عز وجل في الكتاب والسنة كما يليق به سبحانه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى:11).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة