الـهـاربـونَ إلى الـكـهــف

0 538

كانوا في كهف يتصور ظلمته وضيقه ورعبه، فإذا هو رحمات مسبغة، وأنوار ساطعة، وطيبات متدفقة، في حين أن أناسا لا يزالون في كهوف حياتهم المظلمة، ومعايشهم التعيسة، وثرواتهم الموحشة.! والسبب قلة دينهم ، وسعة دنياهم، وتضييعهم شريعة ربهم، وركونهم إلى دنيا قاتلة، ومتاع رخيص، لم توقظهم مصارع أهله، ولا تهافت طلابه.

فروا من ضيق حياة متسعة، إلى ظلمة كهف مورقة، فصبغهم الله بفضله، وأمدهم برحمته [فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته].

انظر إلى الرحمن كيف عطاؤه وسخاوه للفتية الأبرار وتبدل الخوف الشديد سلامة وهداية من عالم الأنوار.!
فروا متعبين ملهوفين، فإذا كهفهم يغدق عليهم، ويحط عنهم المتاعب، ويضع الأرزاء، وتغشاهم السكينة الجميلة، والراحة اللذيذة، فيطير التعب، وتنزاح المخاوف، ويحل الأمن والرخاء [ويهيئ لكم من أمركم مرفقا]. وفي حديث قدسي صحيح:(يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك).
كان مرفقا عجيبا، حاطهم بالنعمة والخير، وسكن روعتهم، ولم شعثهم، وسد جوعتهم، وأحسن ضيافتهم.
فروا والإيمان حاديهم، والتوكل عمادهم، والذكر أنفاسهم، وقد أيقنوا أن الله حافظ عباده، وناصر دينه...

فروا على علم ودراية ، وشجاعة وبسالة، لم تخفهم الحادثات، أو يرهبهم البطش، وصدعوا بالحق في موضعه [إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض ..].
وشمخوا بالعلم والتحدي العقلي، لتلكم الآلهة، وهذه الوثنيات..! وكيف لعقل آدمي، متعه الله أن ينصاع لإرث قديم، غير مقنع [لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا].

ولم تمنعهم حالة الفرار كذلك من سؤال ربهم واستغاثته [فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة.. ]، أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر وتوفقنا للخير، وتمنع عنا كل بلاء وشقاء؛[وهيئ لنا من أمرنا رشدا] أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فصلح لهم دينهم بالثبات، ودنياهم بالراحة التامة، والنجاة الملتذة .
فأكرمهم الله بأن زادهم إيمانا، وملاهم هدى ورحمة، وأكمل عليهم صلاحهم وثباتهم.. فلم تغرهم فتنة، ولم ترهبهم نقمة، ولم يخفهم عدو، أو متربص، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، يستعصي على الانقلاب والانحراف.
وكيف ينحرف أو يتغير من يغشى لبه إيمان، ويحيا به نورا، ويستطعم به السعادة، التي لم توفر سابقا، برغم المتع والجاه والدنانير[فلنحيينه حياة طيبة].
فذاقوا الحياة الطيبة، لما زكت نفوسهم، وصحت أعمالهم، وتدلى عليها الإخلاص والخضوع، وامتلأت الأرواح بالحب والقرب والإخبات، حتى إنهم لما استيقظوا وكلوا علم مدتهم الى ربهم [قالوا ربكم أعلم بما لبثتم].
وسألوا طيب الطعام وأزكاه وأسلمه، وهم في لحظات جوع واحتياج، وساعات خوف واضطرار، ولكنها التقوي الفاشية، والمراقبة المطبقة، التي تضبط السلوك، وتذكر بعين الله وإحاطته،[فلينظر أيها أزكى طعاما].

لم يكن ذلك الكهف الموحش إلا حياة جديدة لشباب الإيمان، ألهمهم الله به، ونجاهم من مكر الظالمين، وأنبتهم به نباتا حسنا، ومنع عنهم الأذى [فأووا إلى الكهف] فكان أشبه ما يكون بالايواء الإيماني، المكلل بأنفاس الذكر والطيب والصفاء.

فلا خوف بعد اليوم، ولا قلق تلك الساعة، فقد نزلتم في ضيافة الكريم المنان، فمنعت العيون، وكبتت الظنون، ودحرت الجنود، ولله الحمد والمنة، فقطع الدابر، واستؤصل الماحق، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة