- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:معالجات نبوية
يقرر هيجل حقيقة الدولة الحديثة بأنها: تجسد الحلول الإلهي على الأرض، بحيث تصبح هي البديل عن الإله، وسرى هذا المفهوم بغير وعي إلى بعض بلدان المسلمين، وصار الفرد يتلقى القوانين كما يتلقى المسلم الوحي من السماء تماما بتمام، بينما تقدم لنا السنة النبوية تصورا سليما في هذا الاتجاه، من خلال نصوص كثيرة نذكر منها ثلاثة نصوص نبوية، ونصا عن الخليفة الأول بما يبين المقصود، ويوضح استيعاب السنة لكثير من معالجات الواقع السياسي المعاصر.
النص الأول: روى الشيخان عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: ... وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ﷺ، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أو لا.
النص الثاني: في البخاري ومسلم أيضا أن النبي - ﷺ - قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.
النص الثالث: حديث علي -رضي الله عنه- قال: (بعث رسول الله - ﷺ - سرية فاستعمل عليها رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب. فقال: أليس أمركم النبي - ﷺ - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: فاجمعوا لي خطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون: فررنا إلى النبي - ﷺ - من النار، فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه، فبلغ النبي فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة إنما الطاعة في المعروف. رواه البخاري ومسلم.
فهذه الأحاديث تنقض فكرة الدولة الإله، وتقرر بشرية المشرعين وواضعي القانون، وإمكانية الصواب والخطأ عليهم، وأن التسليم المطلق لا يكون إلا للرب سبحانه وتعالى، وأن الدولة عبارة عن إطار تعاقدي يقوم على التوافق، ووسيلة موصلة لتحقيق العدل، وسياسة الدنيا بالدين، خلافا للتصور الأول الذي يعيد فرز الناس وتصنيفهم على أسس سياسية صرفة بقطع النظر عن أي اعتبارات أخرى، فالمواطن الصالح هو المعترف بدستور الدولة، والخاضع لكل ما تراه من القوانين ولو كانت تخالف المحكمات الإسلامية، والمتمرد الفاسد هو المعارض لها ولو كان من أصلح الناس، وأنفعهم للمجتمع، ما دام غير خاضع للسلطان بمفهوم السلطة الحديثة، وبالتالي لا حرمة له في ظل هذا التغول الخطير، وهل هذا إلا ممارسة لدور الإله، وتقمص بشري لأخص خصوصيات الرب الذي له الخلق والأمر.
والنص النبوي الأخير يؤصل بشكل أدق للعلاقة بين الفرد والدولة، من خلال تحديد سلطتها على أساس المعروف، بحيث لا يتجاوز الحاكم حدوده البشرية، على غرار النموذج الفرعوني الذي حكاه القرآن، أما الدولة بالشكل العلماني العميق فلا تعترف بسلطان الدين، ولا تخضع لميزان الحلال والحرام في الأديان، بل السلطان كله للأغلبية الحاكمة، فالحلال ما رأته الأغلبية حلالا، والحرام كذلك، وعلى الأفراد والرعايا الخضوع لسلطان الدولة في ذلك.
وهذا التغول لم يعد خافيا على أحد، فقد تكلم عنه المفكرون السياسيون من غير المسلمين، في كثير من المجتمعات الغربية والشرقية، وإذا كانت العلمانية تناهض فكرة الأيدلوجية السياسية فهي واقعة في نفس المأزق، وأقصى ما فعلته هو صناعة آيدلوجية بديلة عن الإيمان بالإله، علاوة على اختلال ميزانها الأخلاقي تجاه قضايا الإنسان العادلة، ومحاولة فرض نفسها على الكون من خلال أدوات العولمة.
روى الإمام مالك في الموطأ: عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فإني وليت أمركم، ولست بخيركم، ألا وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ كذا أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أنا أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم".
وهذا النص يرسى فيه الخليفة الأول أبو بكر -رضي الله عنه- مفهوم بشرية الدولة، ويوضح أن سلطانه مقيد بالتزامه بطاعة الله ورسوله، وهذا لا يتنافى مع مبدأ سيادة الدولة، وبسط نفوذها، وإقامة أنظمتها، ووضع الدساتير والقوانين التي ترعى المصالح، وتنظم العلاقات والحقوق والواجبات، على أن يكون كل ذلك ضمن مرجعية الإسلام ومبادئه العامة، وعلى ضوء ذلك قامت الخلافة الراشدة، كأبرز تطبيق لمفهوم الدولة في الإسلام.
وهناك نصوص كثيرة في السنة النبوية تحدد سلطة الحاكم، وتنظم علاقته بالمحكومين على أساس ميزان الحقوق والواجبات، لا على أساس التقديس والتأليه، الذي تقوم عليه الدولة الحديثة اليوم، ولو لم تصرح بهذه الصفة لنفسها، لكن الممارسة تترجم ما سبق ذكره.