السيرة النبوية وعالمية الإسلام

0 400

جاء الإسلام لكل أمة وزمان ومكان، فهو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل دينا للبشرية جميعا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وقد صرح القرآن الكريم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس جميعا، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء: 107)، وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}(الأعراف: 158). قال ابن كثير: "يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {قل} يا محمد: {يا أيها الناس} وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، {إني رسول الله إليكم جميعا} أي: جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة.. والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه، صلوات الله وسلامه عليه، رسول الله إلى الناس كلهم". وقال السعدي: " {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} أي: عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم".
والأنبياء السابقون جميعا كانوا مسلمين، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين}(يونس:72)، وقال عن إبراهيم عليه السلام: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل}(الحج:78)، وقال عن موسى عليه السلام: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}(يونس:84).. ومثل هذا عن جميع الأنبياء والرسل، والخلاف الواقع بين الأنبياء إنما هو في تفاصيل الشرائع. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والأنبياء إخوة لعلات ((أبوهم واحد وأمهاتهم شتى)، أمهاتهم شتى ودينهم واحد) رواه البخاري. قال ابن حجر في "فتح الباري": "معنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع".

والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث الدالة على عالمية الإسلام، وأن الإسلام لم يأت لعصر دون عصر، ولا لجيل من الناس دون جيل شأن الأديان التي تقدمته، بل كانت رسالة الإسلام عامة للناس جميعا، أبيضهم وأسودهم، عربا كانوا أو عجما، ولم تستثن زمانا دون زمان، ولا أمة دون أمة، ولا مكانا دون مكان ـ، ومن الأدلة والمواقف الدالة على ذلك:

إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الرسائل والسفراء إلى الدول:
لما كان الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل للناس جميعا، كان ولا بد أن يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هذه العالمية فيدعو الناس جميعا إلى الإسلام، ومن ثم لم يدخر النبي صلى الله عليه وسلم جهدا لنشر الإسلام والدعوة إليه، ومن ذلك إرساله لعدد من الرسائل إلى ملوك وأمراء العالم المعاصر له، تحمل إبلاغهم دعوته إلى الإسلام، وحرصه على إسلامهم، وقد انتهج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب لأن الله تعالى بعثه بالإسلام إلى الدنيا بأسرها..
ومن هذه الرسائل النبوية: رسالته صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم: فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه دحية الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، فإذا فيه : "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت عليك إثم الأريسيين، {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}(آل عمران64)) رواه البخاري.
قال ابن حجر تعليقا على موقف هرقل: "لو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب: (أسلم تسلم)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسلم - لو أسلم - من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله تعالى". وهرقل لم يفكر في الإسلام، مع أنه كان يعلم أنه في يوم من الأيام سيزول كل ملكه الذي يحكمه ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يوقن بذلك لوجوده في التوراة والإنجيل (قبل تحريفهما)، وقد قال ـ هرقل ـ قبل ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه (أي النبي صلى الله عليه وسلم) سيملك موضع قدمي هاتين".

وقد ذكر علماء السير أسماء سفراء ورسل النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والأمراء وهم كثير، منهم: دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس حاكم مصر، وشجاع بن وهب إلى المنذر بن الحارث صاحب دمشق، وأبو العلاء الحضرمي إلى المنذر بن ساوي العبدي أمير البحرين، وعمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين بعمان، وأبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن.. وقد انطلق رسل وسفراء النبي صلى الله عليه وسلم يحملون بشائر وأنوار الهداية، من خلال رسائل وخطابات مختومة بختم النبي صلى الله عليه وسلم، تحمل في طياتها دعوته صلى الله عليه وسلم لملوك وأمراء الدول للإسلام، وحرصه على إسلامهم، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لسفرائه قائما على مواصفات يتحلون بها، من علم وفصاحة، وصبر وشجاعة، وحكمة وحسن تصرف، وحسن مظهر.
وكان لهذا الأسلوب في إرسال السفراء والرسائل الأثر البارز في دخول بعض الملوك والأمراء في الإسلام، وإظهار الود من البعض الآخر، كما كشفت هذه الرسائل مواقف البغض من بعض هؤلاء الملوك والأمراء تجاه الإسلام. عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي كسرى وإلي قيصر وإلي النجاشي وإلي كل جبار يدعوهم إلي الله، وليس بالنجاشي الذي صلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم) رواه مسلمقال الطبري في تاريخه: "وقد اختلف تلقي الملوك لهذه الرسائل، فأما هرقل والنجاشي والمقوقس، فتأدبوا وتلطفوا في جوابهم، وأكرم النجاشي والمقوقس رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل المقوقس هدايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأما كسرى لما قرئ عليه الكتاب مزقه". قال النووي: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى.. أما كسرى فهو لقب لكل من ملك من ملوك الفرس، وقيصر لقب لكل من ملك من ملوك الروم، والنجاشي لكل من ملك من ملوك الحبشة.. وفي هذا الحديث جواز مكاتبة الكفار، ودعاؤهم إلى الإسلام".

تعتبر رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء نقطة تحول هامة في سياسة دولة الإسلام الجديدة في المدينة المنورة، إذ بها نقل النبي صلى الله عليه وسلم دعوته للإسلام إلى ملوك الأرض وشعوبها، وعرفهم بالدين الجديد الذي يكفل لأتباعه سعادة الدارين، وفي ذلك دلالة على عالمية الإسلام وأنه جاء للناس أجمعين.. وإذا كان الله قد خص بعض الأنبياء بخصوصيات، فلا عجب أن يخص محمدا صلى الله عليه وسلم بإرساله للخلق كافة، وأن دينه ـ الإسلام ـ الذي جاء به من عند الله عز وجل، جاء للناس جميعا. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) رواه مسلم. وفي رواية أخرى: (وبعثت إلى كل أحمر وأسود). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) رواه البخاري. قال الكرماني: "قوله (عامة) أي: لقومه وغيره من العرب والعجم والأسود والأحمر قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}(سبإ:82)". وقال ابن الجوزي: "(عامة) كان النبي إذا بعث في الزمان الأول إلى قوم بعث غيره إلى آخرين، وكان يجتمع في الزمن الواحد جماعة من الرسل. فأما نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه انفرد بالبعث فصار نذيرا للكل". وقال العيني: "(عامة) أي: لقومه ولغيرهم من العرب والعجم والأسود والأحمر، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}(سبإ: 82)". 

لقد كان في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم سفراءه إلى ملوك وأمراء العالم المعاصر له وهم يحملون رسائل منه، تحمل إبلاغهم دعوته لهم إلى الإسلام، وحرصه على إسلامهم، إشارة واضحة منه صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين والعرب والناس أجمعين، على عالمية الإسلام، وأن الله تعالى بعثه بالإسلام إلى البشرية كلها، وأن الناس جميعا على مختلف أجناسهم وألوانهم وأزمانهم مدعوون للدخول في الدين الحق الذي هو الإسلام، فهو الدين الذي اختاره الله عز وجل لهم، ولا يقبل منهم سواه، قال الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(آل عمران:85)، قال الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينا غير دين الإسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، وقال السعدي: "أي: من يدين لله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، فعمله مردود غير مقبول، لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله، إخلاصا وانقيادا لرسله، فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وكل دين سواه فباطل".

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة