من كانت الدنيا همه

0 512

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد تحدثنا في مقال سابق عمن كانت الآخرة همه، وفي هذا المقال نتحدث عمن كانت الدنيا همه انطلاقا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له".
فكثير من الناس يصبح ويمسي وأكبر همه وأعظم مقاصده الدنيا، فهي الشغل الشاغل له، وهو فيها متبع لشهواته وهواه، مضيع لفرائض ربه ومولاه، مجترئ على محارمه متعد لحدوده، ثم هو لا يفكر إلا في الدنيا ولا يهتم إلا بها، ولا يعمل إلا من أجلها، يفرح إذا زادت دنياه ويحزن إذا نقصت، أما دينه فلا يهم عنده زاد أو نقص.
مثل هذا في الحقيقة سكران بحب الدنيا والتعلق بها أعظم من سكر صاحب الخمر؛ لأن السكران بالخمر يوشك أن يفيق لكن السكران بحب الدنيا لا يفيق غالبا إلا في ظلمة اللحد، قال يحي بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها فلا يفيق إلا في عسكر الموتى نادما بين الخاسرين.

ومن كان على هذا الحال "جعل الله فقره بين عيني"، فلا يشعر بالغنى أبدا لأنه مهما زادت عنده الدنيا فهو غير راض ولا قانع، وبهذا يصير الشعور بالفقر والحاجة حالة ملازمة له لا ينفك عنها ولا تنفك عنه؛ لأن الغنى غنى النفوس.
ومثل هذا تراه دائما لا يشعر بما أنعم الله تعالى عليه مهما عظمت النعم، وتراه متطلعا إلى ما عند الآخرين فيصبح في هم دائم قد فرق الله عليه شمله فالقلب دائما مشغول مهموم يتقطع على الدنيا حسرات، ومثله لا تدوم له صحبة ولا يعرف للسعادة طعما، فربما قطع رحمه، وربما حسد غيره وربما سعى إلى الدنيا ولو من طريق حرام، ومع كل هذا الحرص فلن يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له؛ لأن الحرص على الدنيا لا يزيد في الرزق شيئا.
إن الله تعالى قد بين لنا في كتابه الكريم حقيقة الدنيا في الكثير من الآيات، ومن ذلك قوله تعالى:
{اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (الحديد:20).
ثم بين الله تبارك وتعالى ما تكون فيه المنافسة والمسابقة فقال: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} (الحديد:21).
وقال عز وجل: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}(فاطر:5).

فالدنيا في حقيقتها متاع الغرور ، ظل زائل وصيف عابر لا تستحق كل هذا العناء.
وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: " يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يدك شغلا ولم أسد فقرك".
وقد حدث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى العالية، فمر بالسوق، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فرفعه، ثم قال: "بكم تحبون أن هذا لكم؟" قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به، قال: "بكم تحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حيا لكان عيبا فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت؟ قال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".(رواه أحمد).
كما وصف الله الدنيا في آيات أخرى فبين حقيقتها وضرب لذلك المثل فقال الله تعالى :
{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (العنكبوت:64).
وقال الله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} [يونس:24].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء".

إن المهموم بالدنيا الذي قد جعلها أكبر همه وأعظم قصده تراه ولابد معرضا عن الآخرة غافلا عن ذكر الله تعالى، والله عز وجل يقول: { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى . قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (طه:124-127).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إن العيش عيش الآخرة".
ولقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام رضي الله عنه درسا مهما كما في الصحيحين عنه رضي الله عنه قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال: " إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى".
وجماع ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: "من جعل الهموم هما واحدا هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك".
نسأل الله الكريم ألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا وألا يسلط علينا من لا يخافه ولا يرحمنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة