الحلقة المفقودة

0 372
  • اسم الكاتب:من كتاب: (فيض الخاطر)(الجزء 1) أحمد أمين

  • التصنيف:تاريخ و حضارة

في مجتمعنا العربي حلقة مفقودة لا نكاد نشعر بوجودها في البيئات العلمية، مع أنها ركن من أقوى الأركان التي نبني عليها نهضتنا.

تلك الحلقة هي طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية العميقة، والثقافة الأوربية العلمية الدقيقة؛ وهؤلاء يعوزنا الكثير منهم، ولا يتسنى لنا أن ننهض إلا بهم، ولا نسلك الطريق إلا على ضوئهم.

إن أكثر من عندنا قوم تثقفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة، وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظريات في العلم والأدب والفلسفة؛ لا يسمعون بكانت، وبرجسون، ولا بأدباء أوروبا وشعرائها، ولا بعلمائها وأبحاثهم، إلا أسماء تذكر في المجلات والجرائد والكتب الخفيفة، لا تغني فتيلا ولا تستوجب علما.
وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بحتة، يعرفون آخر ما وصلت إليه نظرات العلم في الطبيعة والكيمياء والرياضة، ويتبعون تطورات الأدب الأوربي الحديث، وما أنتج من كتب وروايات وأشعار، ويعلمون نشوء الآراء الفلسفية وارتقاءها إلى عصرنا؛ ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل؛ فإن حدثتهم عن جرير والفرزدق والأخطل، أشاحوا بوجوههم وأعرضوا عنك، كأنك تتكلم في عالم غير عالمنا، وإن ذكرت الكندي والفارابي وابن سينا، قالوا: إن هي إلا أسماء سميتموها ما لنا بها من علم، وماذا نحصل من هؤلاء إلا على جمل غامضة ومعان مبهمة، لا تفيد علما ولا تبعث حياة؟ .

وبالأمس كنت أتحدث مع طائفة من المتعلمين عن "البيروني" العالم الإسلامي الرياضي، المتوفى سنة 440هـ، وما كشف من نظريات رياضية وفلكية، وأن المستشرق الألماني "سخاو" يقرر أنه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره، وأنه يدعو إلى تأليف جمعية لتمجيده وإحياء ذكره تسمى جمعية "البيروني"، فحدثني أكثرهم أنه لم يسمع بهذا الاسم، ولم يصادفه في جميع قراءاته، وهو يعرف عن ديكارت وبيكون وهيوم وجون ستوارت مل كثيرا، ولكنه لا يعرف شيئا عن فلاسفة الإسلام. ومثل ذلك قل في الأدب العربي والأوربي، والعلم العربي والأوربي؛ كل ثقافته العربية تنحصر في كتاب القواعد وأدب اللغة للمدارس الثانوية، إن كان قد بقي منها شيء في ذاكرته.

هاتان الطائفتان عندنا؛ يمثل الأولى خريجو الكليات الشرعية أزهر وغيره، ويمثل الأخرى نوابغ خريجي المدارس العصرية والبعثات الأوربية.
أما الذين حذقوا العربية والعلوم الإسلامية، ونالوا حظا وافرا من الثقافة الأجنبية، فأولئك هم الحلقة المفقودة في أمتنا اليوم، وفقدانها سبب الركود في الحياة العقلية والأدبية.

ذلك أن الأولين إذا أنتجوا، فعيب إنتاجهم أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر، ولا لغة العصر، ولا أسلوب العصر؛ وإنما التزموا التعبير القديم في الكتابة، والنمط القديم في التأليف، وتحجرت أمثلتهم؛ ومل الناس بلاغتهم، ..وملﱠ الناس نحوهم، ومداره ضرب زيد عمرا، ورأيت زيدا حسنا وجهه؛ وسئم الناس منطقهم، وكله: الإنسان حيوان، وكل حيوان يموت، فالإنسان يموت؛ وهذا حجر، وكل حجر جماد، فهذا جماد.
ضجوا بالشكوى؛ لأن الناس لا يسمعون منهم؛ وضج الناس بالشكوى لأنهم لا يأتون بجديد، ولا يضعون القديم في شكل جذاب، ولا يلمسون الحياة التي يحيونها، ولا البيئة التي يعيشون فيها؛ فانصرفوا عن الناس، وانصرف الناس عنهم. ورضوا أن يعيشوا في جوهم الخاص، ورضي الناس منهم بذلك، وسلكوا سبيلا غير سبيلهم، واتبعوا دليلا غير دليلهم.

وأما الآخرون فضعفت ثقافتهم العربية الإسلامية، فلما أرادوا أن يخرجوا شيئا لقومهم وأمتهم أعجزهم الأسلوب والروح الإسلامي، فلم يستطيعوا التأليف ولا الترجمة، وحاولوا ذلك مرارا، فلم يفهم الناس منهم ما يريدون، وسبوا القراء ورموهم بالضعف والانحطاط، وسبهم القراء ورموهم بالعي، وأنهم لا يفهمون ما يكتبون، فعاشوا في أنفسهم ولأنفسهم، ورضوا من ذلك بالإياب.

كان من نتيجة ذلك أن الأدب العربي الإسلامي، والعلم العربي الإسلامي، والفلسفة العربية الإسلامية على غناها، ظلت مهجورة لا ينتفع بها، تنتظر جيلا جديدا يسيغها ويهضمها، ويبرزها في شكل يألفه الناس؛ وأن الأدب الغربي، والعلم الغربي، والفلسفة الغربية، حرم منها أكثر الشرقيين، ولم يصل إليهم إلا نوع خفيف ينشر في المجلات والجرائد وأمثالها، يقرؤه الناس ليطردوا به الضجر، أو يستعطفوا به النوم؛ وأما أدب غزير، وعلم عميق، وكتب محترمة، ومجلات قيمة، فقليل نادر.

والذي جر إلى فقدان هذه الحلقة أن التعليم عندنا سار في خطين متوازيين لم يلتقيا: فالتعليم العربي الإسلامي سار في خط، والتعليم المدني الحديث سار في خط آخر، ولم تكن هناك محاولات جدية لتلاقي الخطين أو ربط بعضهما ببعض.

لا أمل في إصلاح هذه الحال إلا بالعمل على إيجاد الحلقة المفقودة، وهي تذوق الثقافتين، والاغتراف من المنهلين، وإخراج أدب وعلم وفلسفة غذيت بما للعرب والإسلام من الثقافة، ولقحت بما للأوربيين من ثقافة ومنهج، فيها اللغة العربية قوية رصينة، وروح الإسلام قوية متينة. وفيها ما للأوربيين من عرض للمسائل جذاب، ونهج في الكتابة رشيق، وفيها مقارنة شهية بين ما أنتجه الأولون والآخرون.

لو تم ذلك لرأيت التاريخ الإسلامي يعرض على القراء في شكل محبوب يقرؤونه ويستسيغونه، ورأيت الأدب العربي يقدم إلى الجمهور في ثوبه الجديد فيألفونه ويحبونه، ورأيت الفلسفة الإسلامية يغاص عليها غوصا عميقا، ثم تخرج من أصدافها وتجلي للقراء درة لامعة.

وقد كان إخواننا الهنود أسبق منا إلى إيجاد هذه الحلقة والانتفاع بها، أخرجوا التاريخ الإسلامي في ثوب جديد على نمط ما يكتب الغربيون ولكن بروح إسلامي، وكتبوا في الدين الإسلامي والفقه الإسلامي بلغة العصر، وروح العصر، ونظام العصر، كما فعل السيد أمير علي والسيد محمد إقبال؛ فقد تضلع هذان العالمان الجليلان من الثقافة الإسلامية والأوربية، وأشرب قلباهما حب الإسلام، فأخرجا كتبا يقرؤها الشباب المثقف فيحبها ويحب موضوعها، ويستزيد منها، ويقرأها الشباب المتعلم المتخصص في الطبيعة والكيمياء، فيجدها تتمشى مع العلم الذي تثقفه، والنهج الذي ألفه ؛ وتقرأ للسيد محمد إقبال، فتجده يعرض لفلسفة "كانت"، فإذا هو فيها دارس عميق، والغزالي فإذا هو باحث دقيق، ويقارن بين النصرانية والإسلام فيكشف عن باحث خبير فيما يكتب، ويعرض لشعراء الألمان كجوته فيحلله تحليلا يدعو إلى الإعجاب، ويتكلم في المعتزلة والصوفية فإذا هو قد تغلغل في أعماقهم، واستبطن دخائلهم، ثم عرض تعاليمهم كما يعرض الأوربي فلسفة قومه شائقة عذبة لذيذة.

ولكن الهنود يعرضون ذلك باللغة الإنجليزية، فلا يغذون جمهورنا، ولا يسدون حاجة العالم العربي؛ إنما يتغذى الشرق بهذا يوم توجد هذه الحلقة المفقودة في العالم العربي كمصر والشام، فتحيي آثار الأولين بأسلوب الآخرين، ويوم يكسر هذا الحاجز الذي يحجز بين علم الشرق وعلم الغرب، ويوم يلوى الخطان المتوازيان فيلتقيان.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة