التلازم بين الإيمان والعمل الصالح

0 620

التربية الإيمانية لها جناحان لا تكتمل إلا بهما، وهما: أعمال القلوب، وأعمال الجوارح.. أو بعبارة أخرى: الإيمان والعمل الصالح. ولئن كان الإيمان محله القلب، فإن العمل الصالح محله الجوارح.

ولكي يثمر العمل الصالح زيادة في الإيمان لابد وأن ينطلق من حالة إيمانية (استثارة واستجاشة لمشاعر الرغبة تجاه القيام بالعمل)، فالعلاقة بينهما كالعلاقة بين البذرة والماء، لا وجود للنبات بدون أحدهما.

فلو انصب اهتمامنا على أعمال القلوب، ولم نهتم بالعمل الصالح سيكون الإيمان محدودا، ولن نستفيد بوجوده الاستفادة الحقيقية.. وفي المقابل، لو قفزنا على العمل الصالح دون وجود الإيمان في المشاعر، ودون استثارة هذا الإيمان قبل العمل فسيكون الناتج ضعيفا، إن لم يكن معدوما.
فلابد من الأمرين معا: عمل القلب وعمل الجوارح.. الإيمان والعمل الصالح.

والمقصود بأعمال القلوب: حركة المشاعر تجاه الله عز وجل كخشيته، وحبه، وتعظيمه، ومهابته، ورجائه، والاستعانة به، والافتقار إليه، والانكسار بين يديه، والحب فيه، والغضب من أجله.
والمقصود بأعمال الجوارح: الأعمال التي تؤدى بالجوارح ودلتنا عليها نصوص القرآن والسنة كالصلاة، والذكر، والصدقة، والسعي في قضاء حوائج الناس، كما سيأتي بيانه بإذن الله.

والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تربط بين الاثنين، ولا يكاد يذكر أحدهما إلا ملازما لصاحبه؛ لينتبه المسلم إلى أهميتهما معا، فلا يهتم بأحدهما ويهمل الآخر:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) [مريم:96].
(ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) [طه : 112].
(ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى)[طه:75].

الإيمان أولا:
ومع أهمية ارتباط الإيمان بالعمل الصالح، والعمل الصالح بالإيمان إلا أن الأول مقدم على الثاني، فالإيمان مقدم على العمل الصالح. (فعمل القلب مقدم على عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب وإن اختلفت مرتبتا الطلب). فقد تكون صورة العملين واحدة، ويكون ما بينهما في الدرجة والفضل ما بين السماء والأرض؛ وذلك لتفاضل ما في القلوب..

ونفس الأمر ينطبق على معاصي القلوب ومعاصي الجوارح، فمعاصي القلوب من كبر وغرور، وإعجاب بالنفس، ورياء، ونفاق، وحسد، والفرح بمصائب المسلمين، واستعظام النفس، واحتقار الآخرين وازدرائهم… أشد وأشد في العقاب من معاصي الجوارح كالكذب، والسرقة، والغيبة والنميمة وغيرها.

يقول ابن القيم رحمه الله: "من تأمل الشريعة في مقاصدها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن من المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما؟. وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان".( بدائع الفوائد لابن القيم:4/287).

ومن هنا يتضح لنا أهمية الاهتمام ببناء الإيمان الحقيقي الذي يتناول جميع المشاعر، على ألا يهمل العمل الصالح، بل يقرن دائما بأعمال القلب، ويجتهد المرء في تحسينه وحضور المشاعر معه، فمن فعل ذلك فهو السابق حقا.
فالإيمان أولا والعمل الصالح ثانيا، لتكون النتيجة: تحسن ملحوظ في الخلق والسلوك، والمتأمل في التربية الربانية للجيل الأول يجد أنها كانت تركز على أعمال القلوب، وزيادة الإيمان في القلب قبل تشريع العبادة، فكما قيل بأن الإسلام قد بدأ مشاعر، ثم شعائر، ثم شرائع.

إنه لأمر عجيب أن تفرض الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج آخر العهد المكي، ويفرض الصيام وسائر التشريعات في المدينة، وتفرض الحدود في السنوات الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.. فما الذي كان يفعله المسلمون الأوائل في مكة إذن؟!
لقد كان يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم، وهي مرحلة تأسيس القاعدة الإيمانية، وتعبيد المشاعر لله سبحانه، لتأتي الشعائر بعد ذلك فتحسن التعبير عن هذه المشاعر.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول الأمر: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، ولو نزل أول الأمر: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نترك الخمر أبدا.. أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}[القمر:46]، وهي من سورة القمر، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده في المدينة)(رواه البخاري).

فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه الله علينا، ومع ذلك فلابد من التركيز على القلب، وعلى زيادة الإيمان وتعبيد المشاعر لله، وأن نعطي هذا الأمر القدر الكافي من الاهتمام، وبخاصة في بداية تكوين الفرد المسلم لتصبح العبادة مؤثرة تزيد الإيمان في القلب، ومن ثم تقرب صاحبها إلى الله أكثر وأكثر، ويظهر أثرها في السلوك.

تربية الأولاد على الإيمان:
ولعلنا من ذلك أيضا نستخلص طريقة تربوية نسلكها مع أبنائنا قبل سن التكليف، فمع تعويدهم على أداء عبادات الجوارح المختلفة، إلا أن الجهد الأكبر ينبغي أن ينصب على تعريفهم بالله عز وجل، وتحبيبهم فيه، وتعظيم قدره في قلوبهم، وتعريفهم بأنفسهم، وأنهم لا شيء بدون ربهم..

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بغرس هذه المعاني في قلوب الصغار من أبناء الصحابة كما في حديثه لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول له: (يا غلام، إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)(الترمذي وقال: حسن صحيح).

وخلاصة القول أن التربية الإيمانية الصحيحة التي تقرب العبد من ربه، وتثمر سلوكا صحيحا في حياة الفرد لها جناحان: أعمال القلوب وأعمال الجوارح.. الإيمان والعمل الصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- كتاب "حقيقة العبودية": للهلالي.
- "بين الإيمان والعمل" له أيضا. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة