لا يسُبُّ أحدُكم الدَّهرَ، فإنَّ اللهَ هو الدَّهر

0 390

 

الله عز وجل رب السموات والأرض، وهو خالق المكان والزمان، وهو على كل شيء قدير، ويجب أن يكون له من التقديس والتنزيه والتعظيم في نفوس الخلق ما يعبر عن عظيم الشكر له سبحانه. والمؤمن يؤمن بأقدار الله تعالى، ولا تصرفه المتاعب والابتلاءات عن التأدب مع الله عز وجل، لأنه سبحانه خالق ورب كل شيء، ومن أسمائه سبحانه "الحكيم"، وما يجري به قضاؤه وقدره في طياته الحكمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
والدهر: هو الأمد الممدود، وقيل: الدهر ألف سنة، وقال الأزهري: "الدهر عند العرب يقع على بعض الدهر الأطول، ويقع على مدة الدنيا كلها". وبعض الناس عند الابتلاءات والمصائب النازلة به، من موت عزيز، أو مرض، أو تلف مال، أو غير ذلك، يسب الدهر والزمان ويقول: "يا خيبة الدهر"، أو "بؤسا للدهر والزمان"، أو غير ذلك من ألفاظ السب، وهذا كله لا يجوز لمسلم أن يقوله، وذلك لأن الله تعالى هو فاعل ما يضاف إلى الدهر، من الخير والشر، والعافية والبلاء، فالذي يسب الدهر ظنا منه أنه المتصرف الفعال للحوادث، فإنما يقع سبه على الله تعالى، لأن الله تعالى هو الفعال لما يريد، لا الدهر.

وكان من شأن العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ذم الدهر وسبه عند النوازل والحوادث، ويقولون: بؤسا للدهر، أو تبا له، أو "يا خيبة الدهر"، ويكثرون من ذكر ذلك في أشعارهم، وقد ذكر الله تعالى قولهم في كتابه العزيز فقال تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}(الجاثية:24).
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} أي: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد.. فأما الحديث (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر).. قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر): كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: "يا خيبة الدهر"، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال .وهذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذا من هذا الحديث".
وقال الطبري: "وقوله {وما يهلكنا إلا الدهر}.. وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون: الذي يهلكنا ويفنينا الدهر والزمان، ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم، وهم يرون أنهم يسبون بذلك الدهر والزمان، فقال الله عز وجل لهم: أنا الذي أفنيكم وأهلككم، لا الدهر والزمان، ولا علم لكم بذلك". وقال البغوي: "إن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها، فنهوا عن سب الدهر".

وقد نهـى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الدهر، لأن الله تعالى هو الدهر، أي إن الله هو الذي يصرف الدهر ويدبر الأمور، ويكون فيه ما أراده من خير أو شر، فحقيقة السب تعود إلى الله عز وجل، فمن سب السبب فكأنه سب الخالق المسبب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) رواه البخاري. وفي رواية مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر). وفي لفظ آخر لمسلم: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر، أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما).
يقول رب العزة: (يؤذيني ابن آدم) أي: بأن ينسب إلي ما لا يليق بجلالي، (يسب "الدهر) أي: يشتم الزمان قل أو كثر، فيقول إذا أصابه مكروه: يا خيبة الدهر، أو بؤسا للدهر والزمان، وتبا له، ونحو ذلك. (وأنا الدهر) أي: خالقه، بيدي الأمر الذي ينسبونه إلى الدهر، (أقلب الليل والنهار) يعني: أن ما يجري فيهما من خير وشر بإرادة الله وتدبيره، وبعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن..
قال ابن قتيبة: "وقد حكى الله عز وجل عن أهل الجاهلية، ما كانوا عليه من نسب أقدار الله عز وجل وأفعاله إلى الدهر، فقال: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}(الجاثية:24): فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب، ولا تنسبوها إليه فإن الله عز وجل هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر، فإذا سببتم الفاعل وقع السب بالله عز وجل. ألا ترى أن الرجل منهم، إذا أصابته نائبة، أو جائحة في مال أو ولد، أو بدن، فسب فاعل ذلك به وتوهمه الدهر، فكان المسبوب هو الله عز وجل".
وقال الكرماني: "قوله (أنا الدهر) أي: المدبر، أو صاحب الدهر، أو مقلبه أو مصرفه، ولهذا قوله: (بيدي الليل والنهار).. كانوا يضيفون المصائب إلى الدهر وهم في ذلك فريقان: الدهرية (الذين لا يؤمنون بالله، ويقولون: ما يهلكنا إلا الدهر)، والفرقة الثانية المعترفون بالله لكنهم ينزهونه أن ينسب إليه المكاره فيضيفونها إلى الدهر، والفريقان كانوا يسبون الدهر ويقولون: يا خيبة الدهر، فقال لهم: لا تسبوه على معنى أنه الفاعل فإن الله هو الفاعل، فإذا سببتم الذي أنزل بكم المكاره رجع إلى الله، فمعناه أنا مصرف الدهر فحذف اختصارا للفظ واتساعا في المعنى".
وقال الخطابي: "معناه: أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها".

وقال النووي: "قال العلماء: وهو مجاز، وسببه أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت، أو هرم ، أو تلف مال، أو غير ذلك، فيقولون: "يا خيبة الدهر" ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر، فان الله هو الدهر) أي: لا تسبوا فاعل النوازل، فإنكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى، لأنه هو فاعلها ومنزلها. وأما الدهر الذي هو الزمان، فلا فعل له بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى. ومعنى: (فإن الله هو الدهر) أي فاعل النوازل والحوادث وخالق الكائنات".
وقال ابن هبيرة: ".. والله سبحانه وتعالى هو الذي يقضي ويقدر، وليس للدهر في ذلك شيء، وإنما سب الناس للدهر فيغلطون من جهتين: إحداهما: أنهم ينسبون فعل الله إلى الدهر. والأخرى، أنهم يكرهون أقضية الله، فيستريحون إلى سب الدهر، والمنسوب في الحقيقة، إنما هو الفاعل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فجاء الحديث ناهيا عن أن يؤذي العبد ربه بأن يسب أقداره مسميا لها دهرا، فيكون جانيا على جلال الربوبية من جهتين".
وقال ابن بطال: "قال الخطابي: كان أهل الجاهلية يضيفون المصائب والنوائب إلى الدهر الذي هو مر الليل والنهار.. كانوا يذمون الدهر ويسبونه، فيقول القائل منهم: يا خيبة الدهر، ويا بؤس الدهر، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مبطلا ذلك من مذهبهم: (لا تسبوا الدهر على أنه الدهر، فإن الله هو الدهر) يريد والله أعلم: لا تسبوا الدهر على أنه الفاعل لهذا الصنع بكم، فإن الله هو الفاعل له، فإذا سببتم الذي أنزل بكم المكاره رجع السب إلى الله وانصرف إليه. ومعنى قوله: (أنا الدهر): أنا ملك الدهر ومصرفه فحذف اختصارا للفظ واتساعا في المعنى.. وقوله: (وأنا الدهر) أي: أفعل ما يجرى به الدهر من السراء والضراء، ألا ترى قوله تعالى: (بيدي الأمر أقلب الليل والنهار) فالأيام والليالي ظروف للحوادث، فإذا سببتم الدهر وهو لا يفعل شيئا فقد وقع السب على الله".
وقال القرطبي في "الاستذكار": "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر) على أنه الذي يفعل بكم ذلك، فإنكم إذا سببتم فاعل ذلك وقع سبكم على الله عز وجل، فهو الفاعل بذلك كله، وهو فاعل الأشياء ولا شيء إلا ما شاء الله العلي العظيم".
وقال ابن عثيمين: "الدهر ليس من أسماء الله سبحانه وتعالى". وقال: "وكل شيء من أفعال الله فإنه لا يجوز للإنسان أن يسبه، لأن سبه سبا لخالقه جل وعلا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر)".

الصبر على المصائب والابتلاءات من واجبات الإيمان، والمؤمن لا يجزع ولا يتسخط إذا أصابته مصيبة في نفسه أو في ماله أو في ولده، ومن منكرات الألفاظ العظيمة عند بعض الناس إذا وقعوا في شدة وبلاء، سبهم ولعنهم الساعة أو اليوم أو الزمن الذي حدث فيه ما يكرهونه، وهذا خطأ كبير، وفيه إيذاء لله عز وجل، وفي الحديث القدسي: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر).. وما يجري به قضاء الله عز وجل وقدره فيه الحكمة والمصلحة وإن جهلها العبد، والواجب على المسلم أن يصبر ويرضى بأقدار الله سبحانه، وأن ينزه ويطهر لسانه عن السب وعن كل ما يغضب الله عز وجل. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة