التوكُلُ على الله لا يَعْني ترْك الأسْباب

0 556

التوكل على الله من أجل المقامات، ومن أعظم الواجبات والعبادات، ومعناه الاعتماد على الله، والثقة به، وتفويض الأمور إليه. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "التوكل هو الثقة بالله، وصدق التوكل أن تثق في الله وفيما عند الله، فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك". وقال ابن رجب: "هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها".
والتوكل على الله ينبع من المعرفة بالله عز وجل، فمن عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله فسوف يفضي ذلك لا محالة إلى محبته وتعظيمه والتوكل عليه. قال ابن قدامة المقدسي في "مختصر منهاج القاصدين": "التوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء الشفقة، والقوة، والهداية فإذا عرفت هذا، فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنه لا فاعل سواه، واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة والرحمة، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة ولم يلتفت إلى غيره بوجه". وقال ابن القيم في "مدارج السالكين": "التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل".
والقرآن الكريم زاخر بالآيات التي تذكر التوكل على الله، وقد أمر الله تعالى به المؤمنين فقال سبحانه: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}(المائدة:23)، وقال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}(المائدة: 11). وأمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا}(الأحزاب:3). وقال سبحانه: {فتوكل على الله إنك على الحق المبين}(النمل:79). قال السعدي: "أي: اعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار، وفي تبليغ الرسالة، وإقامة الدين، وجهاد الأعداء".

التوكل على الله لا ينافي ولا يتعارض مع الأخذ بالأسباب:
التوكل الصحيح على الله تعالى معناه: الاعتماد عليه سبحانه، وتفويض الأمور كلها إليه، لأنه الكفيل بأمور عباده، والقادر على كل شيء، مع السعي في الأسباب التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، وجرت بها العادة كاللبس لدفع الحر والبرد، والأكل والشرب لدفع الجوع والعطش، والزواج لمن أراد الأبناء، وإلقاء البذر لمن أراد الزرع، وتناول الدواء لمن أراد الشفاء، وإعداد العدة للجهاد في سبيل الله.. ولا تعارض مطلقا بين التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، بل إن المسلم مطالب بالتوكل على الله والسعي والأخذ بالأسباب المشروعة. قال الله تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها}(الملك:15)، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}(النساء:71)، وقال عز وجل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}(الأنفال:60). وقال عز وجل: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}(آل عمران:159). قال الشيخ ابن عثيمين: "التوكل هو صدق الاعتماد على الله عزوجل في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب التي أمر الله بها، وهذا تعريف جيد جامع".
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا (تذهب جياعا) وتروح بطانا (ترجع بطونها ملئت بالطعام)) رواه الترمذي .
قال ابن رجب في كتاب "جامع العلوم والحكم": "هذا الحديث أصل في التوكل".
وقال الطيبي: "قوله: (حق توكله) بأن يعلم يقينا بأن لا فاعل إلا الله، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر ـ وغير ذلك - من الله تعالى، ثم يسعى في الطلب على الوجه الجميل، يشهد لذلك تشبيهه بالطير، فإنها تغدو خماصا، ثم تسرح في طلب القوت فتروح بطانا".
وقال المناوي: "(لو انكم تتوكلون على الله تعالى حق توكله) بأن تعلموا يقينا ان لا فاعل الا الله، وان كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع من الله، ثم تسعون في الطلب بوجه جميل وتوكل، (لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا) جمع خميص أي جائع (وتروح) ترجع (بطانا) جمع بطين أي شبعان، أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشاء وهي ممتلئة الاجواف، فالكسب ليس برازق بل الرازق هو الله، فأشار بذلك الى ان التوكل ليس التبطل والتعطل، بل لا بد فيه من التوصل بنوع من السبب، لان الطير ترزق بالطلب والسعي، ولهذا قال أحمد: ليس في الحديث ما يدل على ترك الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا ان الخير بيده، لم ينصرفوا الا غانمين سالمين كالطير، لكن اعتمدوا على قوتهم وكسبهم وذلك ينافي التوكل".
وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "فلا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، وإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد من هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا".
وقال ابن حجر في "فتح الباري": "المراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}(هود:6)، وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل، وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته، أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي)، وقال: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا) فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق".

النبي صلى الله عليه وسلم والتوكل على الله:
لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم ـ وهو إمام وسيد المتوكلين على الله ـ يستفرغ الوسع والجهد في الأخذ بالأسباب مع كمال توكله واعتماده على ربه، روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أموال بني النضير كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان يخرج منها نفقة سنة لأهله، وما بقي في السلاح والخيل، لتكون عدة للمسلمين للجهاد في سبيل الله. قال ابن مفلح في "الآداب الشرعية": "فيه جواز ادخار قوت سنة، ولا يقال هذا من طول الأمل، لأن الإعداد للحاجة مستحسن شرعا وعقلا، وقد استأجر شعيب موسى ـ عليهما السلام ـ وفي هذا رد على جهلة المتزهدين في إخراجهم من يفعل هذا عن التوكل".
والمتأمل لحياة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يدرك عظم توكله صلى الله عليه وسلم على ربه، وهذا التوكل لا ينافي أو يتعارض مع أخذه بالأسباب، فكان يتزود في أسفاره، ويعد السلاح في حروبه، وقد أعد النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة ما أمكن مع صاحبه من اختيار الوقت المناسب للهجرة، وإعداد وتجهيز الراحلتين والزاد، وحسن اختيار دليل السفر الذي كان يدلهما على الطريق الصحيح، والذي كان يأتي بالغنم ليخفي آثار سيرهما، وغير ذلك من أسباب.. وقد لبس يوم أحد درعين مع كونه من التوكل بمكان لم يبلغه أحد من خلق الله تعالى.
و"المتوكل" من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قلت: (أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}(الأحزاب:45)، وحرزا (حفظا) للأميين (العرب)، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب (عالي الصوت) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر..) رواه البخاري. قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري": "قال المهلب: وقوله: (سميتك المتوكل) لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله تعالى بالتوكل عليه في الرزق والنصر، والصبر على انتظام الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق".

فائدة:
الأخذ بالأسباب من صدق التوكل، وصحة الدين، وسلامة المعتقد، وقوة اليقين، والأخذ بالأسباب يكون دون الاعتماد عليها وحدها والاعتقاد فيها، ونسيان المسبب وهو الله سبحانه، فاعتماد المرء على الأسباب وحدها خلل في عقيدته وإيمانه، وترك أخذه بالأسباب خلل في توكله وعقله. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى: "الالتفات إلى الأسباب، واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع".
وينبغي أن يعلم أنه لا يتحتم أن يترتب على التوكل على الله وإعداد العدة والأخذ بالأسباب حصول النتيجة المرجوة دائما، وذلك لأن النتيجة تتعلق بأمر الله عز وجل ومشيئته وحكمته، قال السعدي: "{ومن يتوكل على الله} أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك {فهو حسبه} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به.. ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له، فلهذا قال تعالى: {إن الله بالغ أمره} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قد جعل الله لكل شيء قدرا} أي: وقتا ومقدارا، لا يتعداه ولا يقصر عنه".

التوكل على الله عند أهل السنة إنما يكون مع السعي والأخذ بالأسباب، وبدون الأخذ بالأسباب المشروعة تكون دعوى التوكل جهلا بالشرع، وتواكلا لا توكل، فالتواكل هو ادعاء التوكل على الله وعدم الأخذ بالأسباب، والاعتماد على الغير من المخلوقات، والمسلم مطالب بأن يتوكل على الله ويستعين بالله ويسعى لكسب معيشته ومعيشة من هو تحت رعايته، والتواكل يتنافى مع العقيدة الإسلامية لما فيه من كسل وخمول والاعتماد على الغير. فمن مقتضى التوكل على الله عز وجل وشرط صحته: العمل والأخذ بالأسباب النافعة المأذون بها شرعا، ولا تعارض مطلقا بين التوكل على الله والسعي والأخذ بالأسباب.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة