الشِّعْر في السيرة النبوية

0 387

 

الشعر هو كلام ذو معنى موزون على قافية محددة، أو هو مجموعة من الألفاظ مرتبة بطريقة على قواعد الوزن والقافية بحيث تكسبه حلة جميلة.. وللشعر في نفوس العرب منزلة عالية، سجلوا فيه مآثرهم ومفاخرهم، وكانت تنال به العطايا والهبات، ولعب دورا كبيرا في إيقاد نار العصبية والحروب بينهم، وقد انحرف في كثير من الأحيان عن الخلق الكريم، واستخدمه البعض في الدعوة إلى الرذائل والمجون، ومن هذه الناحية كان الشعر عاملا من عوامل الفساد والنزاع والحروب. وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالعفة في القول والفعل، والأدب الذي يليق بالمجتمع البشري وفطرته السوية، فحرم على الناس الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأمرهم باجتناب الرذائل وسوء القول والعمل، وبين لهم أهمية وخطورة الكلمة، وكان له موقف ورأي مع الشعر والشعراء، فبين ووضح أن الشعر كلام مثل سائر الكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح. عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشعر لحكمة) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام) رواه الطبراني . والمعنى: أن الشعر الموزون مثل الكلام وفي حكمه، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. قال ابن العربي في أحكام القرآن: "يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمتضمناته". و قال الشنقيطي: "واعلم أن التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام ، حسنه حسن، وقبيحه قبيح".

والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف التي يظهر من خلالها أن الشعر كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ومنها:
ـ لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي
من الشعراء المشهورين في جزيرة العرب، حتى قال عنه ابن حجر: "كان شاعرا من فحول الشعراء". مر عثمان بن مظعون رضي الله عنه على لبيد وهو يلقي قصيدة له يقول فيها:
ألا كل شيء إذا ما خلا الله باطل   وكل نعيم لا محالة زائل
فحين قال لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" قال له عثمان: صدقت، ولما قال: "وكل نعيم لا محالة زائل" قال له عثمان: (إلا نعيم الجنة)، وفي رواية قال عثمان للبيد: "كذبت، نعيم الجنة لا يزول".. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أصدق كلمة قالها شاعر، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) رواه مسلم. قال ابن هبيرة: "في هذا الحديث ما يدل على أن الشعر حكمه حكم الكلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيد بأن قوله: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل": أصدق كلمة قالها شاعر". وقال النووي: "والمراد بالباطل الفاني المضمحل". وقد أسلم لبيد وحسن إسلامه، ليشهد له شعره في الجاهلية وفي الإسلام على حسن أقواله. قال ابن حجر: "وقد أسلم لبيد بعد ذلك، وذكره في الصحابة البخاري وابن أبي خيثمة وغيرهما".
ـ كعب بن زهير
أحد شعراء قريش الكبار الذي بلغ من الشعر والشهرة حظا مرموقا، وحين دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أسلم أخوه، فهجاه كعب (أي: ذمه بشعره)، ثم هجا النبي صلى الله عليه وسلم أيضا بشعره، فعلم صلى الله عليه وسلم ذلك فتوعده، فهرب كعب يترامى على القبائل أن تجيره فلم يجيره أحد، فنصحه أخوه بالمجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما تائبا، فرجع بعد أن ضاقت الأرض في وجهه، وأتى المدينة وأسلم، وأنشد قصيدته المشهورة (بانت سعاد)، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وخلع عليه بردته كما ذكر ذلك ابن كثير في "البداية والنهاية".
ـ
عن البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت رضي الله عنه: (اهجهم (اذكر عيوب المشركين بشعرك) وجبريل معك) رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: (إن روح القدس (جبريل) لا يزال يؤيدك، ما نافحت (دافعت)عن الله ورسوله) رواه مسلم. فكان حسان رضي الله عنه يهجو كفار قريش الذين كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم ويلمزونه، وكان شعره أشد عليهم من بعض سهام وسيوف المسلمين. قال التوربشتي: "والمعنى: أن شعرك هذا الذي تنافح به عن رسوله يلهمك الملك سبيله، بخلاف ما يتقوله الشعراء إذا اتبعوا الهوى، وهاموا في كل واد".
ـ
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر (استبطأ) تمثل فيه ببيت: ويأتيك بالأخبار من لم تزود) رواه أحمد . وفي رواية الترمذي : (قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويتمثل ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود). والبيت: ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا  ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ـ
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه يذكرون عنده الشعر، وأشياء من أمورهم فيضحكون، وربما تبسم) رواه أحمد.
ـ
عن عمرو بن الشريد عن أبيه، قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، قال: هيه (كلمة للاستزادة) فأنشدته بيتا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت) رواه مسلم. قال النووي: "ومقصود الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية، واستزاد من إنشاده، لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث، ففيه جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسماعه، سواء شعر الجاهلية وغيرهم، وأن المذموم من الشعر الذي لا فحش فيه إنما هو الإكثار منه وكونه غالبا على الإنسان، فأما يسيره فلا بأس بإنشاده وسماعه وحفظه". وقال القرطبي: "فيه دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها، إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا".

الشعر في هدي وحياة النبي صلى الله عليه وسلم كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، وما ورد من ذم للشعر أو للشعراء في السنة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه (يفسده) خير له من أن يمتلئ شعرا) رواه البخاري. المراد بالشعر هنا الإسراف والكذب فيه، وما تضمن سبا وهجاء وفحشا، ولا يدخل في هذا الشعر المنهي عنه الشعر الذي فيه حكمة ودفاع عن الإسلام، ونحو ذلك من الأمور الحسنة. 
قال القسطلاني: "ظاهره العموم في كل شعر لكنه مخصوص بما لم يكن حقا، وأما الحق فلا. كمدح الله ورسوله، وما يشتمل على الذكر والزهد وسائر المواعظ مما لا إفراط فيه، وحمله ابن بطال على الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم، وتعقبه أبو عبيد بأن الذي هجي به النبي لو كان شطر بيت كان كفرا، قال: والوجه عندي أن يمتليء قلبه منه حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن والذكر، فأما إذا كان الغالب القرآن والذكر عليه فليس جوفه بممتلئ من الشعر". وقال النووي: "هو محمول على التجرد للشعر، بحيث يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر".
فالذم يقع على الأغلب من الشعراء ويستثنى منهم من لا يفعل ذلك، مثل هؤلاء الصحابة الذين كانوا يدافعون بشعرهم عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم، كحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما، وفيهم نزل الاستثناء المذكور في قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}(الشعراء:224-227). قال البغوي: "قوله عز وجل: {والشعراء يتبعهم الغاوون} قال أهل التفسير: أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله قد أنزل في الشعر ما قد أنزل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم نضح النبل (الرماح)) رواه ابن حبان . قال القاري: "والمعنى أن هجاءهم يؤثر فيهم تأثير النبل، وقام قيام الرمي في النكاية بهم. وقال الطيبي: خلاصة جوابه صلى الله عليه وسلم أنه ليس فيه ذم الشعر على الإطلاق، فإن ذلك في شأن الهائمين في أودية الضلال، وأما المؤمن فهو خارج من ذلك الحكم، لأنه إحدى عدتيه في ذب (دفع) الكفار من اللسان والسنان".
ومع أهلية النبي صلى الله عليه وسلم البلاغية من فصاحة اللسان، وبلاغة القول، وجوامع الكلم، إلا أنه لم يكن شاعرا ولم يتعلم الشعر، ولذلك لما اتهمه كفار قريش بأنه شاعر كما قال الله عنهم: {بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون}(الأنبياء:5)، رد الله تعالى عليهم فقال سبحانه: {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون}(الحاقة:41)، وبقوله: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين}(يس:69)، قال أبو بكر الجصاص: "لم يعط الله نبيه صلى الله عليه وسلم العلم بإنشاء الشعر.. وإنما لم يعط ذلك لئلا تدخل به الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن". وقال القرطبي: "أخبر تعالى عن حال نبيه صلى الله عليه وسلم، ورد قول من قال من الكفار إنه شاعر وإن القرآن شعر".

الشعرفي السيرة النبوية لا يمدح لذاته ولا يذم لذاته، ولكن ينظر إلى مضمونه ومعانيه، فهو كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، فإذا اشتمل على الحث على الفضائل والنهي عن الرذائل، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، والدعوة للمعاني الطيبة والخير، أو تضمن بعض المصالح الشرعية كهجاء الكفر وأهله، فهو مما يباح ويؤجر عليه صاحبه عند الله عز وجل.. وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الشعر بقوله: (وإن من الشعر لحكمة).. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم بحفظ لسانه وقول ما ينفعه، ونهاه عن القول القبيح الذي يأثم به ويعاقب عليه، سواء في ذلك الشعر أو الكلام العادي المرسل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها، بالا يهوي بها في جهنم) رواه البخاري.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة