حرَّم اللهُ على الأرض أنْ تأكُل أجْسادَ الأنبياء

0 1

الإيمان برسل الله وأنبيائه جميعا من مسلمات الدين، وهو أحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). والمسلمون يؤمنون بجميع الأنبياء والرسل، لا يفرقون بين أحد منهم، ويعتقدون بكفر من أنكر نبوة من أثبت الله نبوته، لأن الكفر برسول أو نبي واحد كفر بجميع الرسل، قال الله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}(البقرة:285)، قال الطبري: "والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم.. ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه". وقال ابن تيمية: "والمسلمون آمنوا بالأنبياء كلهم، ولم يفرقوا بين أحد منهم، فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم".
ومن المعلوم أن الله عز وجل اصطفى أنبياءه ورسله وجمع لهم الفضل كله، فلا يبلغ أحد منزلتهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير}(الحج:75). قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقدره، ومن الناس لإبلاغ رسالاته.. كما قال سبحانه: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}(الأنعام:124)".

ومما اختص الله عز وجل أنبياءه ورسله به بعد موتهم أن حرم على الأرض أن تبلي أجسادهم، إذ تبقى محفوظة بعد موتهم، تكريما لهم صلوات الله وسلامه عليهم.
عن أوس بن أوس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا يا رسول الله: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! يقولون: بليت (بليت وفني جسدك). قال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أبو داود.
قال العراقي: "الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تبلى أجسامهم الكريمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)".
وقال الصنعاني: "(إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) لأنها تشرف بوضع أقدامهم عليها وضمهم إليها، فكيف تأكلهم؟ قال الطيبي: إنما قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد بليت استبعادا له فما وجه الجواب بقوله: "إن الله حرم ... " الخ فإن المانع من العرض والسماع هو الموت وهو ما تم بعد، قلنا: حفظ أجسادهم من أن تبلى خرق للعادة المستمرة".
وقال الهروي: "(إن الله حرم على الأرض) أي: منعها منعا كليا (أن تأكل أجساد الأنبياء) أي: جميع أجزائهم". وقال المناوي: "(حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) لأنها تتشرف بوقع أقدامهم عليها، وتفتخر بضمهم إليها، فكيف تأكل منهم؟!".
وقال ابن تيمية: "مقابر الأنبياء لا تنتن، بل الأنبياء لا يبلون، وتراب قبورهم طاهر".
وقال الشيخ ابن باز: "الحديث المذكور معروف عند أهل العلم، ولا بأس به عند أهل العلم ولا نكارة في ذلك، فإن الله جل وعلا له أن يخص من يشاء من عباده بما يشاء، فإذا خص الأنبياء بتحريم أجسادهم على الأرض فلا غرابة في ذلك لما لهم لديه من الكرامة". وقال الشيخ ابن عثيمين: "(إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام مهما بقوا في الأرض فإن الأرض لا تأكلهم، أما غير الأنبياء فإنها تأكلهم، لكن قد يكرم الله تعالى بعض الموتى فلا تأكلهم الأرض وإن بقوا، ولكننا لا نتيقن أن أحدا لا تأكله الأرض إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام".

فائدة:
1 ـ جميع بني آدم تأكلهم الأرض، ولا يبقى من أجسادهم شيء إلا عجب الذنب، وهو عظم صغير في أسفل الظهر. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل ابن آدم يأكله التراب، إلا عجب الذنب منه) رواه مسلم. قال النووي: "عجب الذنب: هو عظم في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو العظم الذي بين الإليتين الذي في أسفل الصلب، وهو أول ما يخلق منه الآدمي وهو الذي يركب منه". فظاهر هذا الحديث أن جميع بني آدم تأكلهم الأرض، ولا يبقى من أجسادهم شيء إلا عجب الذنب، وهو عظم صغير في أسفل الظهر، ولم يرد استثناء أحد لا تأكله الأرض إلا الأنبياء فقط، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء). قال الشيخ الألباني: "لا نقول على الله ما لا نعلم، نقول: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، أما غير الأنبياء: فلا دليل معنا بأن أجسادهم تبقى".
ولا يمنع ذلك أن يحفظ الله عز وجل بفضله أجساد بعض أوليائه من الشهداء والصالحين، فلا تأكل الأرض أجسادهم، كرامة من الله لهم، لكن ليس ذلك على سبيل اللزوم لكل شهيد أو ولي أو صالح، فإن الأصل أن تأكل الأرض أجساد الناس. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الشهيد لا تأكله الأرض. قال ابن عبد البر في "التمهيد": "روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم، وحسبك ما جاء في شهداء أحد وغيرهم، وإذا جاز أن لا تأكل الأرض عجب الذنب جاز أن لا تأكل الشهداء، وذلك كله حكم الله وحكمته". وقال ابن حجر في "فتح الباري" في الكلام على فضائل والد جابر رضي الله عنهما: "وفيه كرامته بكون الأرض لم تبل جسده مع لبثه فيها، والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة". وقال ابن أبي العز الحنفي: "وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روي في السنن، وأما الشهداء: فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم، وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل والشهيد أفضل، كان بقاء جسده أطول".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "أما الشهداء والصديقون والصالحون فهؤلاء قد لا تأكل الأرض بعضهم كرامة لهم، وإلا فالأصل أنها تأكله ولا يبقى إلا عجب الذنب".
2 ـ الحياة البرزخية (ما بين الموت والبعث) تختلف عن الحياة الدنيا، ولا تجري عليها سننها، ولا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، ومن ثم فعلى المسلم الإيمان بهذه الحياة دون التعرض لكيفيتها وحقيقتها إلا بنصوص صحيحة من الوحي (القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة). قال ابن حجر: "أمور الآخرة لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة". ومما ثبت في الحياة البرزخية للأنبياء: أنهم أحياء في قبورهم، وأن أجسادهم لا تبلى بعد الموت، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم تبلغه صلاتنا وسلامنا عليه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) رواه أبو يعلى والبيهقي وصححه الألباني. وقوله: (إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي). قال ابن حجر: " وما أفاده من ثبوت حياة الأنبياء حياة بها يتعبدون، ويصلون في قبورهم، مع استغنائهم عن الطعام والشراب كالملائكة أمر لا مرية فيه". وقال الشيخ الألباني: "ثم اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) إنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء، ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا، هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء، كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادعاء أن حياته صلى الله عليه وسلم في قبره حياة حقيقية.. وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى".
3 - ليس من إشكال في القول بحياة الأنبياء في قبورهم، وأن الأرض لا تأكل أجسادهم، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم تبلغه صلاتنا وسلامنا عليه، فكل ذلك ثابت بالأحاديث النبوية الصحيحة، ومع ذلك فلا دليل في هذه الأحاديث للذين ضلوا وانحرفوا عن العقيدة الصحيحة وأجازوا الاستغاثة بالأنبياء أو اللجوء إليهم في الشدة، إذ ليس في الكتاب والسنة الصحيحة دليل يجيز التعلق بالأنبياء أو الشهداء والأولياء دعاء أو استغاثة أو نذرا، أو غير ذلك من صور العبادة التي لا تصلح إلا لله عز وجل. قال ابن القيم مبينا أنواع الشرك: "ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده". وقال ابن تيمية: "والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت"..  

من فضل الله تعالى وإكرامه لأنبيائه ورسله أن الأرض لا تأكل أجسادهم، فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة. وقد دل الحديث النبوي الصحيح على أن أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يصيبها البلى والفناء الذي يصيب أجساد غيرهم من العباد، وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
قال ابن القيم في قصيدته "النونية":

والأنبياء فإنهم تحت الثرى         أجسامهم حفظت من الديدان
ما للبلى بلحومهم وجسومهم       أبدا وهم تحت التراب يدان
وكذاك عجب الظهر لا يبلى بلى   منه تركب خلقة الإنسان

وقال ابن أبي العز الحنفي في "شرح العقيدة الطحاوية": "وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روي في السنن"..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة