الملائكة المُوكَلة بِكِتابَةِ عَمل الإنسان

0 571

الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). والملائكة خلق من مخلوقات الله تعالى، خلقهم الله تعالى من نور. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور) رواه مسلم. وهم رسل الله تعالى وجنده في تنفيذ أمره الذي يوحيه إليهم، قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير}(الحج: 75). والملائكة ليسوا بناتا لله عز وجل ولا أولادا، ولا شركاء معه ولا أندادا، تعالى الله عما يقول الظالمون والملحدون علوا كبيرا، قال الله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون}(الأنبياء:26). قال ابن كثير: "يقول تعالى ردا على من زعم أن له ـ تعالى وتقدس ـ ولدا من الملائكة، كمن قال ذلك من العرب: إن الملائكة بنات الله، فقال: {سبحانه بل عباد مكرمون} أي: الملائكة عباد الله مكرمون عنده، في منازل عالية ومقامات سامية، وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا". والملائكة يصحبون بني آدم من لحظة تكوينهم في بطون أمهاتهم حتى نزع أرواحهم من أجسادهم يوم موتهم، بل ويصحبونهم في قبورهم، ولا علم لنا بعالم وصفات وأحوال الملائكة إلا في حدود ما أخبرنا الله عز وجل عنه في قرآنه الكريم، أو من خلال أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم الصحيحة.
والملائكة بالنسبة إلى ما هيأهم الله تعالى له، ووكلهم به على أقسام، فمنهم ما هو موكل بالوحي من الله تعالى إلى رسله، وهو جبريل عليه السلام، ومنهم الموكل بالقطر (المطر) وهو ميكائيل عليه السلام، ومنهم الموكل بالصور وهو إسرافيل عليه السلام، ومنهم الموكل بقبض الأرواح وهو ملك الموت، ومنهم الموكلون بفتنة القبر، وهم منكر ونكير، ومنهم ما هو موكل بالجنة، ومنهم الموكل بالنار.. ومن الملائكة كذلك: الموكل بحفظ وكتابة عمل العبد من خير وشر..

الملائكة الموكلة بحفظ وكتابة عمل العبد من خير وشر:
الملائكة الموكلة بحفظ وكتابة عمل العبد من خير وشر، ملازمون للإنسان عن اليمين وعن الشمال، فيكتب صاحب اليمين الحسنات، ويكتب صاحب الشمال السيئات، وما من أحد من الناس إلا وله ملكان يكتبان أعماله من الخير والشر، والأدلة على ذلك من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة كثيرة، ومن ذلك:
1 ـ قال الله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة}(الأنعام:61). قال البغوي: "وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة، يعني: الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم، وهو جمع حافظ". وقال الطبري: "{ويرسل عليكم حفظة} وهي ملائكته الذين يتعاقبونكم ليلا ونهارا، يحفظون أعمالكم ويحصونها، ولا يفرطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يضيعون".
2 ـ قال عز وجل: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون}(الزخرف:80). قال الطبري: "يقول تعالى: بل نحن نعلم ما تناجوا به بينهم، وأخفوه عن الناس من سر كلامهم، وحفظتنا لديهم، يعني عندهم يكتبون ما نطقوا به من منطق، وتكلموا به من كلامهم". وقال السعدي: "{ورسلنا} الملائكة الكرام، {لديهم يكتبون} كل ما عملوه، وسيحفظ ذلك عليهم، حتى يردوا القيامة، فيجدوا ما عملوا حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا".
3 ـ قال الله سبحانه {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}(ق:18:17). قال ابن كثير: "{ما يلفظ} أي: ابن آدم {من قول} أي: ما يتكلم بكلمة {إلا لديه رقيب عتيد} أي: إلا ولها من يراقبها معد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون}(الانفطار:12:10)". وقال الطبري: "وقوله {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} يقول تعالى: ما يلفظ الإنسان من قول فيتكلم به، إلا عندما يلفظ به من قول رقيب عتيد، يعني حافظ يحفظه، عتيد معد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل". وقال السعدي: "{إذ يتلقى المتلقيان} أي: يتلقيان عن العبد أعماله كلها، واحد {عن اليمين} يكتب الحسنات والآخر {عن الشمال} يكتب السيئات، وكل منهما {قعيد} بذلك متهيئ لعمله الذي أعد له، ملازم له. {ما يلفظ من قول} خير أو شر {إلا لديه رقيب عتيد} أي: مراقب له، حاضر لحاله، كما قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون}(الانفطار:12:10)". وقال السيوطي في "الدر المنثور": "أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله {إذ يتلقى المتلقيان} قال: مع كل إنسان ملكان، ملك عن يمينه وآخر عن شماله، فأما الذي عن يمينه فيكتب الخير، وأما الذي عن شماله فيكتب الشر". وقال الشيخ ابن باز: "{رقيب عتيد}(ق:18) الظاهر أنه الملك الذي يكتب عليه سيئاته وحسناته، ملكان: ملك الحسنات، وملك السيئات، يحتمل أنه يشملهما.. فكلاهما رقيب، وكلاهما عتيد، وكلاهما معد لهذا الشيء، ملك كاتب الحسنات، وملك كاتب السيئات".
4 ـ قال الله تعالى: {وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون}(الانفطار:12:10). قال الطبري: "قوله: {وإن عليكم لحافظين} يقول: وإن عليكم رقباء حافظين يحفظون أعمالكم، ويحصونها عليكم {كراما كاتبين} يقول: كراما على الله كاتبين يكتبون أعمالكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل". وقال ابن كثير:"{وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون} يعني: وإن عليكم لملائكة حفظة كراما فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم". وقال السعدي: "وقد أقام الله عليكم ملائكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمون أفعالكم.. فاللائق بكم أن تكرموهم وتجلوهم وتحترموهم".

ومن الأحاديث النبوية في ذكر الملائكة الحفظة الموكلة بحفظ وكتابة عمل العبد من خير وشر:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا) رواه مسلم. قال المناوي: "وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي، إما بإطلاع الله إياه، أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك".
2 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي) رواه مسلم. قال القرطبي: "قوله: (قالت الملائكة: رب، ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به ـ) قال الطبري: فيه دليل على أن الحفظة تكتب أعمال القلوب، خلافا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة. وقوله: (إنما تركها من جراي) أي: من أجلي.. ومقصود هذا اللفظ: أن الترك للسيئة لا يكتب حسنة، إلا إذا كان خوفا من الله تعالى، أو حياء من الله، وأيهما كان، فذلك الترك هو التوبة من ذلك الذنب.. وقوله تعالى: (إنما تركها من جراي) إخبار منه تعالى للملائكة بما لم يعلموا من إخلاص العبد في الترك، ومن هنا قيل: إن الملائكة لا تطلع على إخلاص العبد".
3 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها، كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة) رواه البخاري. قال ابن حجر: "(إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات) أي: أمر الحفظة بكتابتهما، أو كتبهما في علمه على وفق الواقع منهما".
4 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف) رواه البخاري. قال الكرماني: "قوله (من أجلي) أي امتثالا لحكمي وخالصا لي، وتكتب له حسنة لأن ترك المعصية طاعة، وترك الشر خير". وقال العيني: "قوله: (من أجلي):.. خوفا مني". وقال الشيخ الغنيمان في "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري": "وهذا الخطاب من الله تعالى للملائكة الموكلين بحفظ عمل الإنسان وكتابته، وهو يدل على فضل الله على الإنسان وتجاوزه عنه".
5 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) رواه البخاري. قال الطيبي: "(يتعاقبون) تأتي طائفة عقيب طائفة، واجتماعهم في الوقتين من لطف الله وكرمه بعباده، ليكون شهادة لهم بما شهدوه من الخير.. قال الأكثرون: إن هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكتاب، وقيل: يحتمل أن يكونوا غيرهم". وقال القاضي عياض: "ومعنى (يتعاقبون): أي: يأتي طائفة بعد أخرى.. وسؤال الله لهم على ظاهره، والله أعلم بهم.. كما أمرهم أن يكتبوا أعمالهم وهو أعلم بالجميع، ويحتمل أن يكون هؤلاء هم الحفظة الكتاب، وأن ذلك مما يخص كل إنسان، وعليه حمله الأكثرون، وهو الأظهر، وقيل: يحتمل أن يكون من جملة الملائكة لجملة الناس". وقال ابن حجر: "قوله: (ملائكة) قيل: هم الحفظة نقله عياض وغيره عن الجمهور.. وقال القرطبي: الأظهر عندي أنهم غيرهم".

فائدة:
الثابت في القرآن الكريم والأحاديث النبوية أن كل إنسان موكل به ملكان، يكتبان أقواله وأفعاله، من خير وشر، ولم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الصحيحة أن هذه الكتابة من الملائكة: هل تستلزم دخول الملائكة مع العبد في كل مكان يدخل إليه ـ سواء كان المكان طيبا، أم كان مهينا كالخلاء ـ، لكتابة كل عمل يعمله أو قول يتكلم به؟ أو أن الله عز وجل خلق فيهما من القدرة ما تمكنهما من معرفة الأعمال والأقوال وكتابتها من غير حاجة إلى مصاحبة العبد في كل مكان يدخل إليه؟.. قال الشيخ ابن عثيمين في "شرح العقيدة السفارينية": "هذان الاثنان - يعني الملكين - هل هما دائما مع الإنسان؟ نعم، لقوله تعالى: {إلا لديه رقيب عتيد}(ق:18). وقيل: إنهما يفارقانه إذا دخل الخلاء، وإذا كان عند الجماع، فإن صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإن لم يصح فالأصل العموم {إلا لديه رقيب عتيد}". والذي ينبغي على المسلم هو عدم الكلام في مثل هذه الأمور الغيبية من غير دليل من كتاب الله أو من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، والإيمان بأن كل ما يصدر من العبد محصي ومكتوب عليه، وذلك كاف للعبد في هذا الباب، وهو الأمر الذي ينفعه ويعنيه، قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}(ق:18)، وقال سبحانه: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}(الجاثية:29). قال ابن كثير: "وقوله: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} أي: إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم. قال ابن عباس وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا، ثم قرأ: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}". وقال السيوطي: "وأما السؤال عن دخول الكاتبين الخلاء، فجوابه: أنا لا نعلم، ولا يقدح عدم علمنا بذلك في ديننا، وجملة القول فيه: أنهما إن كانا مأمورين بالدخول دخلا، وإن أكرمهما الله عن ذلك وأطلعهما على ما يكون من الداخل، مما سبيلهما أن يكتبا، فهما على ما يؤمران به".

الإيمان بالملائكة عليهم السلام يوجب محبتهم وإجلالهم، فهم عباد مكرمون، خلقا وخلقا، بررة صفة وفعلا، مجبولون على طاعة الله تعالى {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}(التحريم:6). ومن هؤلاء الملائكة الكرام: الملائكة الموكلة بحفظ وكتابة عمل الإنسان من خير وشر..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة