أثر التوحيد في تزكية النفوس

0 556

إن أساس بناء النفوس على الاستقامة والصلاح هو تحقيق العبودية لله وحده لا شريك له، والله تعالى هو المنعم على عباده بإرشادهم لما فيه تزكية نفوسهم : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ۗ والله سميع عليم} (النور:21).
ولذلك كان الأساس الأول لتزكية النفس هو تحقيق توحيد الله تعالى بإفراده بالربوبية والألوهية وإثبات الأسماء الحسنى وصفات الكمال التي لا تنبغي إلا له سبحانه.
ولقد أرسل الله جميع الرسل يدعون إلى التوحيد ويحذرون من الشرك : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36).
وفي الحديث : "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟". قال: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا".
قال ابن القيم رحمه الله: (التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى).

ولقد كانت الآيات تتنزل في مكة لتثبيت عقيدة التوحيد في نفوس الموحدين وترد على المعاندين والمعرضين الذين أصروا على الشرك ومعاداة دعوة التوحيد.
كما أن القرآن قد أقام الحجة على هؤلاء المشركين بوجوب إفراده بالعبادة والطاعة بما أقروا به من كونه سبحانه هو وحده الخالق لهذا الكون وما فيه. وأظهر القرآن عجز هذه الآلهة المزعومة، وبين أنها لا تملك نفعا ولا ضرا.قال الله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ۖ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)} (البقرة).

وقال عز وجل في بيان استحقاقه وحده العبادة وبطلان عبادة ما سواه: { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19) والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء ۖ وما يشعرون أيان يبعثون (21) إلهكم إله واحد ۚ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22) لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ۚ إنه لا يحب المستكبرين (23) } (النحل).
كما ركزت آيات الكتاب الكريم على إيقاظ الفطرة التي فطر الله الناس عليها وذلك لتثبيت عقيدة التوحيد في النفوس : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } (يونس:12).
وقال الله تعالى: { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار } (الزمر:8).
وهذه حقيقة يقررها القرآن أن بعض بني الإنسان في حال الرخاء قد ينسى خالقه، لكنه عند الشدائد ووقوع الضر به لا يجد أمامه إلا الله تعالى ملجأ، لأن هذه هي الفطرة، أما الشرك والإلحاد فهو غش وخداع ينكشف عند أول شدة تحيط بالإنسان.
ولا شك أن المؤمن الموحد الذي تيقظت فطرته يحيا حياة كريمة ويشعر أن لوجوده قيمة وغاية وأن له في هذه الدنيا رسالة، فيقوم بما أوجب الله تعالى عليه وينتهي عما نهى الله عنه فينعم بالراحة وسكينة النفس وطمأنينة القلب، بخلاف المشرك أو الملحد الذي تراه عديم الثقة بالحياة دائم الاضطراب والقلق لا يجد لحياته غاية وليس له في هذه الدنيا رسالة.

ولقد وردت آيات كثيرة في كتاب الله تعالى تبين آثار التوحيد في تحقيق طمأنينة النفس وتزكيتها، وتأثير الشرك في اضطرابها وقلقها، ومن ذلك:
قول الله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24)تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ۗ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25)ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (26)يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ۖ ويضل الله الظالمين ۚ ويفعل الله ما يشاء (27)} (سورة إبراهيم).
فقد بينت الآيات أثر التوحيد في النفس وكأنه شجرة طيبة ثابتة لا تعصف بها الرياح ولا تقتلعها الأعاصير، وهي مثمرة على مر الأيام لا ينقطع ثمرها.
أما كلمة الشرك فهي كالشجرة الخبيثة التي لا أصل لها ولا ثبات، وهذا هو حال الشرك في اضطرابه وقلقه وعدم رسوخه.
إن الآيات لتبين لنا بجلاء أن الشرك مقطوع الصلة بالفطرة السليمة التي خلق الله عباده عليها.

ويقول الله تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ۖ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ۚ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } (الأنعام:125).
فيبين الله تعالى كيف شرح صدر المؤمن الذي استقامت فطرته ولم تتلوث ولم تحد عن التوحيد، شرح صدره للإسلام وتولاه سبحانه بالتأييد والتوفيق للخير.
أما من حاد عن الفطرة السوية التي فطر الله عباده عليها فأعرض عن الإيمان وسلك طريق الغواية والضلال فإن الله تعالى يزيده ضلالا ويجعل صدره ضيقا.
ونفس المؤمن الموحد تنعم بالراحة والاستقرار ويتوجه بكل طاقته وجوارحه إلى سيده ومولاه ومالكه ومدبر أمره الذي له ما في السماوات وما في الأرض وهو على كل شيء قدير، فينعم باليقين ويمشي على الأرض وقد اتضح له الطريق.
أما المشرك فتتنازعه الأهواء فيظل معذب القلب لا يعرف للراحة معنى، ولا للسعادة طريقا، وصدق الله تعالى: { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا ۚ الحمد لله ۚ بل أكثرهم لا يعلمون } (الزمر:29).
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( القلب لا يصلح ‌ولا ‌يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه. وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له ولا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائما مفتقر إلى حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين.
فهو مفتقر إليه من حيث هو المطلوب المحبوب المعبود ومن حيث هو المستعان به المتوكل عليه.
فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه ولا تتم عبوديته إلا بهذين...ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله).

ويقول ابن القيم رحمه الله: (فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في دنياه وفي البرزخ ويوم معاده، ولا تقر العين، ولا يهدأ القلب، ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، ‌فمن ‌قرت ‌عينه ‌بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن به وعمل صالحا، كما قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} ( النحل: 97 ) .
فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين، فهم أحياء في الدارين.
ونظير هذا قوله تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين} ( النحل: 30).
ونظيرها قوله تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} ( هود: 3).
وقال رحمه الله: ( يتحقق للعبد مقام {إياك نستعين} علما وحالا، فتثبت قدم العبد في توحيد الربوبية، ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع، والعطاء والمنع، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة كل ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وتخلى عنه ، اتخذه وحده إلها ومعبودا، فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، وأرجى له من كل ما سواه، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب، فتنساق المحاب تبعا لها كما ينساق الجيش تبعا للسلطان، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخاوف، فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء، فينساق كل رجاء له تبعا لرجائه. فهذا علامة توحيد الإلهية، والباب الذي دخل إليه منه: توحيد الربوبية، كما يدعو سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به، ويقررهم به، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية.
وفي هذا المشهد يتحقق له مقام {إياك نعبد}، قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون} [الزخرف: 87] أي: فمن أين يصرفون).
وبتحقيق التوحيد يحيا المؤمن في هذه الدنيا حياة الأمن والسكينة والطمأنينة، مع ما يرجوه في الآخرة من الثواب الحسن والنعيم المقيم : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } (الأنعام: 82).
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة