من أسماء الله الحسنى (المَلِك)

0 3

العلم بأسماء الله الحسنى له فوائد وفضائل كثيرة وعظيمة، منها: معرفة الله عز وجل، وسؤاله ودعاؤه بها، وتعميق حبه سبحانه في القلوب، والأدب معه، ودخول الجنة. ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن شرف العلم بشرف المعلوم، وقد ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" أن علم الأسماء والصفات من أشرف علوم الخلق. قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}(الأعراف:180)، قال الشوكاني في "فتح القدير": "هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التفصيل، والحسنى تأنيث الأحسن أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحدا قط هم و لا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، و ابن عبدك، و ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، و نور صدري، و جلاء حزني، و ذهاب همي، إلا أذهب الله همه و حزنه، و أبدله مكانه فرجا. قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) رواه أحمد.
وأسماء الله تعالى وصفاته توقيفية مصدرها القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، لا مجال للعقل والاجتهاد فيها. وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه ـ من أسماء وصفات ـ في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما ينفون ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه سبحانه الكامل في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فلا مثيل له في ربوبيته، ولا مثيل له في إلهيته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى:11). قال السعدي: "{ليس كمثله شيء} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة". وقال الشيخ ابن عثيمين: "أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها، وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص، لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}(الإسراء:36).. ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص".

و"الملك" اسم من أسماء الله تعالى الحسنى. و"الملك" عز وجل: بيده مقاليد كل شيء، وعنده مفاتيح كل شيء، ولا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض، يتصرف في ملكه تصرف قادر قاهر، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.. وملك الله مطلق، إيجادا، وتصرفا، ومصيرا، وملك المخلوقين نسبي، مآله إلى الزوال، قال الله تعالى: {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}(الرحمن:26:27). قال السعدي: "أي: كل من على الأرض، من إنس وجن، ودواب، وسائر المخلوقات، يفنى ويموت ويبيد ويبقى الحي الذي لا يموت {ذو الجلال والإكرام} أي: ذو العظمة والكبرياء والمجد، الذي يعظم ويبجل ويجل لأجله".
قال الزجاج في "تفسير أسماء الله الحسنى": "الملك": النافذ الأمر في ملكه، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره أو تصرفه فيما يملكه، فالملك أعم من المالك، والله تعالى مالك المالكين كلهم، والملاك إنما استفادوا التصرف في أملاكهم من جهته تعالى". وقال الخطابي في "شأن الدعاء": "الملك هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات". وقال الغزالي في "المقصد الأسنى": "الملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود، ويحتاج إليه كل موجود، بل لا يستغني عنه شيء في شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في وجوده ولا في بقائه.. فكل شيء سواه هو له مملوك، وهو مستغن عن كل شيء، فهذا هو الملك مطلقا". وقال ابن كثير: "(الملك) جل جلاله هو: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة". وقال ابن القيم في "شفاء العليل": "إن من أسمائه: (الملك)، ومعناه الملك الحقيقي ثابت له سبحانه بكل وجه".

وقد ورد اسم الله تعالى "الملك" في الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومن ذلك:
1 ـ قال الله تعالى: {فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما}(طه:114). قال الطبري: "{الملك} الذي لا ملك فوقه ولا شيء إلا دونه". وقال السعدي: "{الملك} الذي الملك وصفه، والخلق كلهم مماليك له، وأحكام الملك القدرية والشرعية، نافذة فيهم".
2 ـ قال الله تعالى: {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}(المؤمنون:116). قال ابن عاشور: "الله هو الملك الذي ليس في اتصافه بالملك شائبة من معنى الملك. فملكه الملك الكامل في حقيقته، الشامل في نفاذه".
3 ـ قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر}(الحشر:23). قال السعدي: "هذه الآيات الكريمات قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى وأوصافه العلى، عظيمة الشأن، وبديعة البرهان، فأخبر أنه الله المألوه المعبود، الذي لا إله إلا هو، وذلك لكماله العظيم، وإحسانه الشامل، وتدبيره العام، وكل إله سواه فإنه باطل لا يستحق من العبادة مثقال ذرة، لأنه فقير عاجز ناقص، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا".
4 ـ قال تعالى: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم}(الجمعة:1). قال ابن كثير: "أي: هو مالك السماوات والأرض المتصرف فيهما بحكمه".
5 ـ قال تعالى: {قل أعوذ برب الناس * ملك الناس}(الناس:3:1). قال الطبري: "وهو ملك جميع الخلق: إنسهم وجنهم، وغير ذلك، إعلاما منه بذلك من كان يعظم الناس تعظيم المؤمنين ربهم أنه ملك من يعظمه، وأن ذلك في ملكه وسلطانه، تجري عليه قدرته، وأنه أولى بالتعظيم، وأحق بالتعبد له ممن يعظمه، ويتعبد له، من غيره من الناس".
6 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون. ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) رواه مسلم.
7 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) رواه مسلم.
8 ـ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت) رواه مسلم.

بعض الآثار الإيمانية لاسم الله تعالى "الملك":
1 ـ
 تفرد الله تعالى بالملك دليل ظاهر على وجوب إفراده وحده بالعبادة، وأن عبادة من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا حياة ولا موتا ولا نشورا أعظم الضلال. قال الله تعالى: {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}(المؤمنون:116). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}(الزمر:67)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده ويحركها، يقبل بها ويدبر: يمجد الرب نفسه أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن به) رواه ابن حبان.
2 ـ اسم الله "الملك": يبين كمال ملك الله تعالى، ونقص وزوال ملك الإنسان، وأن الإنسان في حقيقته عبد مملوك لخالقه، وأن ما يملكه إنما هو ملك لله على الحقيقة، لأن ملكية الإنسان ملكية نسبية مؤقتة، وأن المالك الحقيقي هو الله تعالى، فلا يجوز للإنسان حينئذ أن يتجاوز هذه الحقيقة بالطغيان والتعالي والتكبر، كما حكى الله تعالى عن فرعون الذي تجاوز حدوده كإنسان ضعيف مخلوق: {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون}(الزخرف:51). وقال صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون. ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) رواه مسلم.
3 ـ ومن مقتضيات وآثار العلم والإيمان اسم الله عز وجل "الملك": أن يسأل العبد ربه بأن يعطيه ويغنيه، لأن الله هو الملك الحق، الذي بيده ملك كل شيء وخزائنه ومقاليده ومفاتيحه، فهو المالك لكل شيء حقيقة، وهو المعطي المانع سبحانه جل في علاه. قال صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له).
قال ابن القيم في "طريق الهجرتين وباب السعادتين": "إن حقيقة الملك: إنما تتم بالعطاء والمنع، والإكرام والإهانة، والإثابة والعقوبة، والغضب والرضا، والتولية والعزل، وإعزاز من يليق به العز، وإذلال من يليق به الذل. قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}(آل عمران:27:26)، وقال تعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن}(الرحمن:29)، يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويكشف غما، وينصر مظلوما، ويأخذ ظالما، ويفك عانيا، ويغني فقيرا، ويجبر كسيرا، ويشفي مريضا، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويعطي سائلا، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى، ويداول الأيام بين الناس، ويرفع أقواما ويضع آخرين، ويسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها، فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه، وجرى به قلمه، ونفذ فيه حكمه، وسبق به علمه، فهو المتصرف في الممالك كلها وحده، تصرف ملك قادر قاهر، عادل رحيم، تام الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه في المملكة دائر بين العدل والإحسان، والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يخرج تصرفه عن ذلك".
4 ـ ومن مقتضيات وآثار الإيمان باسم الله "الملك": أن يعلم المسلم أن لكل ملك حمى، وحمى الله عز وجل محارمه، فمن أراد لنفسه النجاة، فليتق عقوبة الملك عز وجل بطاعته، وعدم معصيته، واجتناب محارمه. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) رواه البخاري.
قال الكرماني: "(محارمه) أي: المعاصي التي حرمها كالقتل والسرقة، ومعناه أن الملوك لكل واحد منهم حمى يحميه عن الناس، ويمنعهم دخوله، فمن دخله أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقاربه، خوفا من الوقوع فيه، ولله تعالى أيضا حمى وهو المعاصي، من ارتكب شيئا منها استحق العقوبة". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "والمراد بالمحارم: فعل المنهي المحرم، أو ترك المأمور الواجب". 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة