- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من أعلام الدعوة
أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للأنبياء، وجعل رسالته خاتمة للرسالات، فكان لابد من أن تكون شريعته محفوظة على مدار الزمن وما بقيت الحياة، فحفظ الله سبحانه للأمة القرآن، وإتماما لحفظ الدين والكتاب كان لابد من حفظ السنة.. فكان من توفيق الله تعالى وتمام حفظ دينه أنه قيض لحفظ السنة رجالا وهبوا حياتهم لهذا الأمر وجعلوه همتهم وغايتهم ومقصدهم، وبذلوا فيه أوقاتهم، وأنفقوا عليه أموالهم، وأفنوا فيه أعمارهم، وأوقفوا عليه حياتهم.. وكان على رأس هؤلاء أئمة أعلام وحفاظ كرام وعلماء عظام.. وكان من هؤلاء الإمام الكبير والحافظ الشهير الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله ورضي عنه.. فمن هو هذا العلم ومن يكون هذا الإمام؟
من هو الإمام الترمذي؟
إنه الإمام العالم، التقي الورع، الحافظ المتقن.. الثقة المشهور، علم من أعلام الأمة المتفق على إمامتهم، وفارس من فرسان الحديث الأفذاذ، وصاحب الجامع، وأحد الأئمة الستة الكبار الذين حرس الله بهم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصبحت كتبهم في عالم السنة هي الأصول المعتمدة في الحديث، ومن الذين نضر الله وجوههم لأنه سمع الحديث فأداه كما سمعه.
إنه إمام السنة، والعلم القدوة "محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، أبو عيسى السلمي البوغي الترمذي الضرير.
والسلمي: نسبة إلى بني سليم قبيلة عربية تنتمي إلى مضر.. وأما البوغي فنسبة إلى "بوغ" قرية من قرى "ترمذ" ـ تبعد عنها ستة فراسخ أو 50 كيلومتر تقريبا ـ
وترمذ: بكسر التاء على الأشهر ـ بلدة تقع جنوب أوزبكستان، قرب الحدود الشمالية لأفغانستان الآن.
مولده ونشأته
ولد الإمام الترمذي في ذي الحجة سنة 209 هـ، يعني في العقد الأول من القرن الثالث الهجري، وهو العصر الذهبي بل أزهى عصور العناية بالسنة النبوية المباركة، حيث ظهرت في هذا القرن كتب الصحاح والمسانيد والمجاميع، وفيه ألفت الكتب الكبار الشهيرة كالكتب الستة (البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة) والتي منها "جامع الترمذي".
وقد قال البقاعي في الكشف: "أصله من مرو، وانتقل جده منها أيام الليث بن السيار، واستوطن مدينة ترمذ وولد بها ونشأ".
وقد اختلف العلماء هل ولد مبصرا أم ضريرا (كفيف البصر)؟
فذكر الذهبي أن الصحيح أنه أضر في كبره بعد رحلته وكتابته العلم، ونقل قول الحاكم: "سمعت عمر بن علك أو ابن عليك يقول: "مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى، في العلم والحفظ، والورع والزهد، بكى حتى عمي، وبقي ضريرا سنين"(سير أعلام النبلاء: 13/273).
طلبه للعلم وشيوخه:
وهب الإمام الترمذي حياته كلها للعلم من النشأة إلى الوفاة، فقد نشأ مقبلا على العلم منذ صغره، فبدأ رحمه الله طلب العلم في سن مبكرة؛ فمن أقدم شيوخه: أبو جعفر محمد بن جعفر السمناني (توفي قبل220هـ) فيكون عمر الترمذي آنذاك قد ناهز العشر سنين.
ثم درج في مدارج الطلب، وتوجه للجلوس إلى شيوخ العلم في بلده، وتردد على دروسهم، وأكب على النهل من معينهم، فدرس العلوم واجتهد وحصل حتى برع في أكثر الفنون، ولكنه تخصص في علم الحديث رواية ودراية.
ثم إنه بعد أن تلقى العلم عن أهل بلده رحل وطوف في البلاد؛ قال الذهبي في السير:" ارتحل فسمع بخراسان والعراق والحرمين"، وكانت كلها مواطن علم، ومراكز إشعاع، توطنها علماء فحول، وحفاظ متقنون، فلقي الكبار وأكثر عن العراقيين عامة، وعن البصريين منهم خاصة..
ورحل الإمام الترمذي أيضا إلى البصرة والكوفة والعراق، فأخذ عن علمائها ونقل عن أئمتها وأكثر النقل عنهم، ودخل إلى بغداد، وكانت مهد العلم في ذلك الوقت وقبلة العلماء، فأخذ عن مشايخها وعلمائها، ولكنه دخلها بعد وفاة الإمام أحمد بن حنبل – فلم يدركه ولم يسمع منه.
غير أنه على كثرة رحلاته وسفره في طلب العلم لم يدخل مصر ولا الشام، وإنما روى عن علماء هذين القطرين بالواسطة.
شيوخه
كان من نجابة الترمذي حرصه على تلقي العلم عن أكابر الشيوخ وجلة العلماء، وكانت سمة لهذا العصر وهي طلب العلو، فرحل من أجل ذلك وطوف البلاد ـ كما سبق ـ حيث أخذ عن شيوخ الرواية وأئمة الدراية في كل مكان نزله، فاجتمع له من الأكابر الذين أسند عنهم ودرس على أيديهم عدد كبير من الأعلام ومحدثي الإسلام:
ومن أشهر الشيوخ الذين تلقى الترمذي عنهم وسمع الحديث منهم:
- الإمام الكبير، إمام الدنيا أبو يعقوب إسحاق بن راهويه (238هـ).
- محمود بن غيلان المروزي (239هـ).
- قتيبة بن سعيد الثقفي البغلاني (ت240هـ) وهو أحد شيوخ أصحاب الكتب الستة.
- علي بن حجر المروزي (ت244هـ).
- أحمد بن منيع البغوي الحافظ (ت244هـ)
- محمد بن بشار البصري الملقب بـ "بندار" (252هـ).
- محمد بن المثنى البصري العنزي الملقب بـ (الزمن) والمشهور بـ "غندر" (ت252هـ).
- عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ، صاحب سنن الدارمي (255هـ).
الترمذي وأستاذه البخاري
وأما أستاذه الأكبر، وشيخه الأعظم فهو إمام الدنيا في الحديث وأمير المؤمنين، وفاكهة هذا العلم وأستاذ أستاذيه، الإمام البخاري - محمد بن إسماعيل (ت256هـ)، فقد اتصل به اتصالا قويا، فتتلمذ على يديه، وتفقه به، وأكثر من مساءلته ومناظرته، فأفاد منه وصار من أنجب تلامذته، وبه تخرج، وكان طبيعيا أن يتأثر به أشد التأثر ولا سيما في فقه الحديث، وكثيرا ما كان ينقل أقواله وأحكامه على الأحاديث في سننه.
وكان الترمذي يجل أستاذه البخاري ويقدره، ويقول: "لم أر أحدا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل".
وكان البخاري حفيا به، كثير العناية بمذاكرته لما رأى فيه من الفطنة والذكاء وقوة الإدراك، فسمع منه حديثا إكراما له واعترافا بمنزلته، وقد قال له البخاري مرة: "ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي" (تهذيب التهذيب:9/289).
ومن الكبار الذين سمع منهم الترمذي أيضا: الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب "صحيح مسلم"، والإمام أبو داود السجستاني الإمام المعروف صاحب السنن. وهناد بن السري، وبشر بن معاذ العقدي.. وغيرهم كثير.
كما اشترك مع أقرانه الأئمة الخمسة أصحاب الكتب المعتمدة المشهورة بالكتب الستة (البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة) في تسعة شيوخ وهم:
محمد بن بشار "بندار"، ومحمد بن المثنى "غندر"، وزياد بن يحيي الحساني، وعباس العنبري، وأبو سعيد الأشج، وعمرو بن علي الفلاس، ويعقوب الدورقي، ومحمد بن معمر القيسي الحراني، ونصر بن علي الجهضمي.
قال الذهبي في السير: "أقدم ما عنده من الحديث، حديث مالك والحمادين (حماد بن زيد، وحماد بن سلمة)، والليث، وقيس بن الربيع، وينزل حتى إنه أكثر عن البخاري، وأصحاب هشام بن عمار.
تلاميذ الترمذي:
كتب الله القبول للإمام الترمذي، وطار صيته وعلا كعبه في العلوم حتى صار قبلة يتوجه إليها طلاب العلم فكثر تلاميذه كما كثر شيوخه.. وقد ذكر منهم الذهبي عددا في سيره فذكر منهم:
أبو بكر أحمد بن إسماعيل السمرقندي، وأبو حامد أحمد بن عبدالله بن داود المروزي، وأحمد بن علي بن حسنويه المقرئ، وأحمد بن يوسف النسفي، وأسد بن حمدويه النسفي، والحسين بن يوسف الفربري، وحماد بن شاكر الوراق، وداود بن نصر بن سهيل البزدوي، والربيع بن حيان الباهلي، وعبدالله بن نصر أخو البزدوي، وعبد بن محمد بن محمود النسفي، وعلي بن عمر بن كلثوم السمرقندي، وغيرهم؛ (سير أعلام النبلاء جـ 13/272:271).
قوة حفظ الترمذي:
أعطى الله الترمذي حافظة قوية، وملكة هائلة على حفظ الحديث قل نظيرها، أعانته على حفظ عشرات الألوف من الطرق حتى كان يضرب به المثل في الحفظ.. وشهد له بذلك العلماء:
فقال ابن العماد في شذرات الذهب: "كان مبرزا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان"(3/327).
وقال الإدريسي في تهذيب الكمال: "رجل عالم متقن، كان يضرب به المثل في الحفظ".
وروى هو عن نفسه ما يدل على قوة حافظته، قال الترمذي: كنت في طريق مكة، فكتبت جزأين من حديث شيخ، فوجدته فسألته، وأنا أظن أن الجزأين معي، فسألته، فأجابني، فإذا معي جزآن بياض، فبقي يقرأ علي من لفظه، فنظر، فرأى في يدي ورقا بياضا، فقال: أما تستحي مني؟ فأعلمته بأمري، وقلت: أحفظه كله، قال: اقرأ، فقرأته عليه، فلم يصدقني، وقال: استظهرت قبل أن تجيء؟ فقلت: حدثني بغيره، قال: فحدثني بأربعين حديثا، ثم قال: هات، فأعدتها عليه، ما أخطأت في حرف". فقال الشيخ له: ما رأيت مثلك. (رواه الإمام الذهبي في "تذكرة الحفاظ: 2/154)
مصنفاته
1 ـ كتاب سنن الترمذي: أو "جامع الترمذي" والمشهور بـ "الجامع الصحيح"، وهو أشهر مؤلفات الترمذي، وأحد الكتب الستة، وأحد السنن الأربعة، ويبلغ عدد أحاديثه (3956) حديثا.
2 ـ كتاب الشمائل المحمدية: ذكر فيه أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وشمائله وأخالقه وآدابه.
3 ـ كتاب العلل الكبير (أو علل الترمذي): وهو عبارة عن عدة أحاديث يرويها الترمذي بأسانيده، ثم يعقبها بالحكم على كل حديث منها.
4 ـ العلل الصغير: وهو كتاب ملحق بكتاب السنن، يجمع فيه الأحاديث المعللة على ترتيب الأبواب الفقهية، ويبين فيه علة كل حديث.
5 ـ وله عدة مؤلفات أخرى، منها ما هو مفقود:
ككتاب الزهد، وكتاب التفسير، وكتاب التاريخ، وكتاب الأسماء والكنى.
ثناء العلماء عليه:
اجتمعت كلمة العلماء ومؤرخي الإسلام، وأهل التراجم على إمامة الترمذي، ورفعة مكانته، وعلو قدره، وانطلقت ألسنتهم وكتاباتهم وتراجمهم بالثناء عليه والاعتراف له بالحفظ والتقوى والورع والزهد وسعة الاطلاع والتمكن وحسن التصنيف.
. قال الإمام ابن حبان صاحب الصحيح: "كان أبو عيسى ممن جمع وصنف، وحفظ وذاكر"(سير أعلام النبلاء: 13/273).
. وقال الإدريسي في تهذيب الكمال: "الترمذي: أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف كتاب "الجامع" والتواريخ والعلل، تصنيف رجل عالم متقن، كان يضرب به المثل في الحفظ".
. قال الإمام الحاكم صاحب المستدرك: سمعت عمر بن علك يقول: "مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى، في العلم والحفظ، والورع والزهد، بكى حتى عمي، وبقي ضريرا سنين" (سير أعلام النبلاء: 13/273).
. قال ابن العماد الحنبلي في الشذرات: الإمام الترمذي تلميذ أبي عبدالله البخاري، ومشاركه فيما يرويه في عدة من مشايخه، سمع منه شيخه البخاري وغيره، وكان مبرزا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان"(3/327).
وأما قول ابن حزم فيه مجهول، فقد أنكره عليه عامة العلماء، وردوا عليه ردودا قاسية، واتهموه بالجهل، وأنه لم ير كتابه الجامع أصلا.. لأنه مات قبل دخول الكتاب إلى الأندلس.
. قال ابن خلكان (رحمه الله): "الترمذي الحافظ المشهور، أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف كتاب الجامع والعلل تصنيف رجل متقن، وبه كان يضرب المثل، وهو تلميذ أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل: قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، وابن بشار، وغيرهم" (وفيات الأعيان لابن خلكان جـ 4 صـ 104).
. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب: أحد الأئمة، طاف البلاد، وسمع خلقا من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين... ثم ذكر أسماء.
شهادة الإمام البخاري للترمذي:
قال الترمذي (رحمه الله): قال لي محمد بن إسماعيل البخاري (رحمه الله): "ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي" (تهذيب التهذيب للعسقلاني: 5/249).
وفاته رحمه الله:
بعد عمر حافل بالعلم والتعليم، والجهاد والتحصيل، والتأليف والتصنيف، والعمل والعبادة، وفي ليلة الاثنين (13 رجب 297هـ، 892 م) توفي الإمام الترمذي رحمه الله تعالى، في بلدته ترمذ، وكان عمره سبعين عاما.
فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين وسنة خاتم النبيين أفضل الأجر والثواب.