وفاة أبي طالب.. دروس وعبر

0 226

روى البخاري ومسلم في صحيحهما ـ اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله ـ عن المسيب بن حزن قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: أي عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.

هذا الحديث حديث جليل وعظيم، وفيه فوائد كثيرة جدا، عقدية وأخلاقية وتربوية لمن تأمله.. فمن ذلك:
أولا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم الشديد على الدعوة وسعيه إلى استنقاذ أي نفس من الموت على الكفر وبالتالي دخول النار، وهذا من رحمته -صلوات الله عليه- بالعالمين كما قال الله فيه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء:107)، حتى كان يحزن حزنا شديدا على كل من مات على غير الإيمان، حتى قال الله له: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}(الشعراء: )، وقال: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}.

ومن مظاهر هذه الرحمة فرحه بإيمان أي أحد ونجاته من النار: ففي البخاري عن أنس قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار).

ثانيا: وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لعمه، ومحاولته رد جميله عليه؛ فقد تربى النبي في كنفه صغيرا، وكان يحوطه كبيرا ويرعاه ويدفع عنه أذى المشركين.. وكان أبو طالب سيدا فيهم بعد أبيه مطاعا كريما مهيبا.. وكان أخذ عهدا على نفسه ألا يخلصوا إلى ابن أخيه بأذى ما دام حيا ويقول:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم .. حتى أوسد في التراب دفينا
وكان يعلم صدق ابن أخيه، ويرى من جميل شمائله وحسن خلقه، وحسن ما يدعو إليه حتى كاد أن يسلم.. وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد ... .. من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة .. .. لوجدتني سمحا بذاك مبينا

تمنى النبي صلى الله عليه وسلم إسلام عمه وبذل قصارى جهده في دعوته إلى آخر لحظة في عمره؛ رجاء أن يطيعه فيسلم فيشفع له عند الله، (يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله).
ولكن أبت صحبة الأشرار والفجار والكفار إلا أن تؤتي ثمارها الخبيثة، وتثبت أنها مصيبة كبيرة وسبب هلاك، فقد كاد الرجل أن يسلم لولا إلحاح أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية وقولهم له: أتترك دين آبائك وأجدادك، أتترك دين عبد المطلب، فما زالوا به حتى مات على الشرك، وقال: "هو على دين عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله".

ومات أبو طالب وأطاع أصدقاء السوء ورفقاء الملة، وأبى أن يسلم ويشهد شهادة الحق، رغم حرص النبي صلى الله عليه وسلم الشديد ورغبته ومحبته لذلك، وأنزل الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.
ليعلم كل الخلق أن هداية التوفيق، وإدخال الإيمان القلب وقبول العبد له لا يقدر عليها إلا الله؛ فقلوب العباد كلهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فأيما قلب أراد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب أراد أن يزيغه أزاغه. فهو سبحانه يعلم من يستحق الهداية وهو أهل لها، ومن ليس كذلك، {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى}، {وهو أعلم بالمهتدين}، فيهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا، فالأمر كله له سبحانه {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}.

وإنما حظ النبي صلى الله عليه وسلم من الهداية هداية الدلالة والإرشاد والبيان والإبلاغ {إن عليك إلا البلاغ}، {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}، {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}؛ حتى لا تتعلق القلوب بغير خالقها، ولا تتطلع لغير مالكها، وليعلم الجميع أن الأمر كله لله.

النهي عن الاستغفار
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد بعض جميل عمه، ويستغفر له بعد موته.. فنهاه الله تعالى عن ذلك وأنزل قوله: {ما كان للنبى وٱلذين ءامنوٓا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوٓا أولى قربى منۢ بعد ما تبين لهم أنهم أصحب ٱلجحيم}(التوبة:113).

فتبين من نهي الله نبيه عن الاستغفار لعمه عدة أمور:
أولها: أن أبا طالب مات على ملة عبد المطلب ولم يسلم، كما صرح هو بذلك بقوله: (هو على دين عبد المطلب)، ودل عليه أيضا حديث أبي داود بسند صحيح: (أن عليا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: إن عمك الشيخ الضال قد هلك، قال: اذهب فواره، قال إنه مات مشركا؟ قال: اذهب فواره).

وعن العباس في الصحيحين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)(متفق عليه).
أي أنه يشفع له عند الله يوم القيامة ليخفف عنه، فيجعله أهون أهل النار عذابا؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه)(رواه البخاري ومسلم).
وهذه الشفاعة قال عنها ابن حجر رحمه الله: إنها شفاعة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم في عمه.

ثانيا: شؤم الشرك على أصحابه.. وأن من مات على الكفر والشرك فهو من أهل النار، وأن الشرك محبط للأعمال:
فالأول: أن المشركين هم أصحاب النار.. دل عليه القرآن الكريم دلالة واضحة ظاهرة لا لبس فيها:
قال تعالى: {إن ٱلذين كفروا بـٔايتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها ليذوقوا ٱلعذاب}(النساء:56). وقال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ۖ وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ۖ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ۖ وما للظالمين من أنصار}(المائدة:72). وقال: {إن ٱلذين كفروا من أهل ٱلكتب وٱلمشركين فى نار جهنم خلدين فيهآ ۚ أولٓئك هم شر ٱلبرية}(البينة:6). وقال: {إن ٱلذين كفروا لو أن لهم ما فى ٱلأرض جميعا ومثلهۥ معهۥ ليفتدوا بهۦ من عذاب يوم ٱلقيمة ما تقبل منهم ۖ ولهم عذاب أليم . يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ۖ ولهم عذاب مقيم)(المائدة:36، 46).
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في الناس: (إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة)، وفي لفظ: (مؤمنة).

والثاني: أن الشرك محبط للأعمال.. فمهما عمل الكافر من عمل خير وإحسان فإن الله يجازيه عليه في الدنيا بعدله {ولا يظلم ربك أحدا}، وأما في الآخرة فقد أحبط الشرك والكفر ثواب عمله:
قال الله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}(المائدة:5}. وقال لخير البشر: {ولقد أوحى إليك وإلى ٱلذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من ٱلخسرين}(الزمر:65). وقال {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}(الأنعام:88).

وبين أن عمل المشركين لا قيمة له في الآخرة فقال: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}(الفرقان:23}. وقال: {وٱلذين كفروٓا أعملهم كسراب بقيعةۢ يحسبه ٱلظمـٔان مآء حتىٓ إذا جآءهۥ لم يجده شيـٔا ووجد ٱلله عندهۥ فوفىه حسابهۥ ۗ وٱلله سريع ٱلحساب}(النور:39).
وقد أجمع المفسرون على أن هذا مثل ضربه الله يبين حبوط أعمال الكفار..
قال الإمام القرطبي: "وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار، يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر؛ أي لم يجدوا شيئا، كما لم يجد صاحب السراب إلا أرضا لا ماء فيها؛ فهو يهلك أو يموت".
ومثل هذا قوله سبحانه في سورة إبراهيم: {مثل ٱلذين كفروا بربهم ۖ أعملهم كرماد ٱشتدت به ٱلريح فى يوم عاصفۢ ۖ لا يقدرون مما كسبوا على شىءۢ ۚ ذلك هو ٱلضلل ٱلبعيد}(إبرهيم:18).

ثالثا: أن من مات على الكفر لا يجوز الترحم عليه ولا الاستغفار له: لأن الله تعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه رغم كل ما فعله له، وكذلك نهى المؤمنين فقال سبحانه: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}(التوبة:113).
ولم يقبل الله تعالى شفاعة نوح لابنه الكافر: {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين* قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنـي ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين}(هود:45، 46).
ولا شفاعة إبراهيم لأبيه، ورغم أنه أمرنا بالتأسي به في كل أمره إلا أنه استثنى استغفاره لأبيه فنهانا عن التأسي به فيه: {قد كانت لكم أسوة حسنة فىٓ إبرهيم وٱلذين معه... إلى أن قال: إلا قول إبرهيم لأبيه لأستغفرن لك ومآ أملك لك من ٱلله من شىء}، واعتذر لإبراهيم بقوله: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ۚ إن إبراهيم لأواه حليم}(التوبة:114).

حرام بالإجماع
فالدعاء للكفار بالمغفرة والرحمة من المحرمات المجمع عليها: قال الإمام النووي في (شرح صحيح مسلم :1/358): "وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذابا من بعض بحسب جرائمهم".

وهو أيضا من الاعتداء في الدعاء الذي نهى الله عنه بقوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}(الأعراف:55).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله، مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، أو المغفرة للمشركين، ونحو ذلك". انتهى.

خاتمة هامة:
ينبغي على المسلم أن يعلم أن أمور الآخرة وأحكامها، ودخول الجنة والنار ومن يستحق ممن لا يستحق، كلها أمور اعتقادية الحكم فيها لله تعالى وليس لأهواء البشر، وأن من تمام الإيمان أن نسلم لله تعالى في حكمه وألا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا فما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل، ورد علم ما اشتبه إليه إلى عالمه.. {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين}.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة