أهمية النشاط والسعي

0 234

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الشرع يأمر بالجد والاجتهاد والنشاط، وينهى عن الغفلة والتواني والكسل؛ وذلك لما في النشاط والاجتهاد من خير؛ ولما في الكسل من شرور ومفاسد لا تخفى على أحد.
ها هوالصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يخبرنا كيف كان طريقه للفوز بشرف خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: (التمس لنا غلاما من غلمانكم يخدمني، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، والعجز، والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال).
قال ابن بطال: (الاستعاذة من العجز والكسل؛ لأنهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله، وحقوق نفسه وأهله، وتضييع النظر في أمر معاده، وأمر دنياه، وقد أمر المؤمن بالاجتهاد في العمل، والإجمال في الطلب، ولا يكون عالة، ولا عيالا على غيره، ما متع بصحة جوارحه وعقله).
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
اجهد ولا تكسل ولا تك غافلا .. .. فندامة العقبى لمن يتكاسل

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثـرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم).
قال أبو الوليد الباجي: "... "والمنشط والمكره"، يريد: وقت النشاط إلى امتثال أوامره، ووقت الكراهية لذلك. ولعله أن يريد بالمنشط: وجود السبيل إلى ذلك، والتفرغ له، وطيب الوقت، وضعف العدو".

الرسول القدوة في الجد والنشاط:
لقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها نشاطا وعملا واجتهادا، فعن البراء رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول:
لولا أنت مـا اهتـديـنا .. .. ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزل السكـينة علينـا .. .. وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا.. .. إذا أرادوا فـتـنـة أبينا)

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا).
وعن أبي إسحاق قال: سألت الأسود بن يزيد عما حدثته عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: (كان ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله، قضى حاجته، ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول - قالت - وثب - ولا والله ما قالت قام - فأفاض عليه الماء - ولا والله ما قالت: اغتسل. وأنا أعلم ما تريد - وإن لم يكن جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى الركعتين). فهو يثب وثبا يدل على النشاط والهمة.

نشاط السلف وحركتهم:
إذا نظرت إلى القرون الفاضلة من الصحابة والتابعين لوجدت حياتهم مفعمة بالنشاط والعمل، تنطق بهذا كلماتهم ومواقفهم، يخبر عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن حال الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشيروا علي أيها الناس) -وإنما يريد الأنصار-؛ وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذممنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يارسول الله؟ قال: "أجل". قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله. فوالذي بعثك بالحق، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: (سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم). وكأن شعارهم رضي الله عنهم:
لا يظهر العجر منا دون نيل منى .. .. ولو رأينا المنايا في أمانينا

إن النشاط سبب صفاء الذهن، وصدق الحس، وكثرة الصواب.
قال ابن عبد ربه: (وبالنشاط يصفو الذهن، ويصدق الحس، ويكثر الصواب).

يقول الشيخ القرضاوي رحمه الله :
(قالوا السعـادة فــي السكو .. .. ن وفي الخمـول وفـي الخمود
فـي العيـش بيـــن الأهـــل .. ..  لا عيش المهاجـر والطـريــد
فـي لــقمــة تـأتـــي إلـيــك .. ..  بـغيــر مــا جـــهـد جــهــيــد
فـي المشـي خلـف الركـب .. ..  في دعـة وفي خــطـو وئـيــد
فــي أن تــقــول كــمـا يقـا .. ..  ل فــلا اعتــراض ولا ردود
فـي أن تسيـر مـع القطيــ  .. ..  ــع، وأن تــقــاد ولا تــقـــود
فـي أن تعيـش كمـا يــرا  .. ..  د، ولا تـعــيـش كــمـا تـريــد
قلت الحــيـاة هــي التحــر .. ..  ك لا السـكــون ولا الهـمــود
وهـي الجهـاد وهــل يجـا  .. .. هــــد مــن تعــلــق بالقـعـــود
وهـي الشعـور بـالانتصـا .. ..  ر ولا انتـــصــار بـلا جهـود
وهـــي الـتــلــذذ بـالـمتــا .. ..  عــب، لا الــتـلــذذ بالــرقــود
هي أن تـــذود عـن الحيا .. ..  ض، وأي حـــــر لا يــــــذود
هـي أن تـحـــس بأن كــأ .. ..  س الــذل مــن مــاء صــديــد
هي أن تعيش خــليفة في .. ..  الأرض شــأنــك أن تســـــود
.

إن هذه هي الحياة الحقيقية لا حياة النوم والكسل الذي يجعل صاحبه من جنس الموتى، قال الراغب: (من تعطل وتبطل، انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى، وحق الإنسان أن يتأمل قوته، ويسعى بحسب ذلك إلى ما يفيده السعادة، ويتحقق أن اضطرابه -أي: نشاطه- سبب وصوله من الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضيعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة).

وقال ابن القيم: (الكسالى أكثر الناس هما وغما وحزنا، ليس لهم فرح ولا سرور، بخلاف أرباب النشاط والجد في العمل).

قال حسين المهدي: (إن التنقل والمشي يعين على طلب الرزق، ويكسب الصحة، ويجدد للإنسان النشاط، ويغرس فيه الأمل، ويبعده عن الكسل، وأي قيمة لإنسان فارغ كسول في حياة مفعمة بالجد والعمل وحب الإنتاج، فمن رضي الخمول كان فارغا كسولا، تموت آماله وهو يرمقها بعين الندامة، لا غاية له يسعى إلى تحقيقها، ولا طريق واضحة يسير فيها، إن حياته كلها شقاء).
فقل لمرجي معالي الأمور .. .. بغير اجتهاد: رجوت المحالا
ولقد كانت أمثال العرب وأقوالهم تدل على هذا المعنى، ومنها:
(كلب طواف، خير من أسد رابض).
(العمل ترس يقي سهام البلاء، والجد سيف يقطع أعناق الشقاء).

وقد كان من مواعظ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل).

أثر الصحبة في اكتساب النشاط :
مما لا شك فيه أن للصحبة تأثيرها على الفرد؛ فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي، وإن العبد ليستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم، لأن رؤيتهم تذكره بالله عز وجل، وعن أنس رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم-: (إن من الناس ناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قال: "هم الذين يذكر الله لرؤيتهم".

قال الغزالي: "اعلم أن الرجل قد يبيت مع القوم في موضع، فيقومون للتهجد، أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه، وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة، فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة، حتى يزيد على ما كان يعتاده، أو يصلي، مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلا، وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع، فينبعث له نشاط في الصوم، ولولاهم لما انبعث هذا النشاط، فهذا ربما يظن أنه رياء، وأن الواجب ترك الموافقة، وليس كذلك على الإطلاق، بل له تفصيل؛ لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى، وفي قيام الليل وصيام النهار، ولكن قد تعوقه العوائق، ويمنعه الاشتغال، ويغلبه التمكن من الشهوات، أو تستهويه الغفلة، فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع، فينبعث له النشاط، فقد يكون الرجل في منزله، فتقطعه الأسباب عن التهجد، مثل تمكنه من النوم على فراش وثير، أو تمكنه من التمتع بزوجته، أو المحادثة مع أهله وأقاربه، أو الاشتغال بأولاده، أو مطالعة حساب له مع معامليه، فإذا وقع في منزل غريب، اندفعت عنه هذه الشواغل، التي تفتر رغبته عن الخير، وحصلت له أسباب باعثة على الخير، كمشاهدته إياهم، وقد أقبلوا على الله، وأعرضوا عن الدنيا، فإنه ينظر إليهم، فينافسهم، ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله، فتتحرك داعيته للدين، لا للرياء، أو ربما يفارقه النوم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر، فيغتنم زوال النوم، وفي منزله ربما يغلبه النوم، وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام، والنفس لا تسمح بالتهجد دائما، وتسمح بالتهجد وقتا قليلا، فيكون ذلك سبب هذا النشاط، مع اندفاع سائر العوائق... وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم، ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم، ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم، وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى، وقد يتحرك بذلك باعث الدين، ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد، فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين، فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد، بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية، ويشتغل بالعبادة".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة