قصة مُسَيْلِمَة الْكَذَّاب مع النبي صلى الله عليه وسلم

0 207

رؤيا جميع الأنبياء حق ووحي، وكتب الحديث والسيرة النبوية تذكر جانبا من رؤى النبي صلى الله عليه وسلم والتي تحققت كما رآها، كمثل رؤيته لدار الهجرة قبل ذهابه إليها، وما أصاب المؤمنين يوم أحد من مقتل بعض أصحابه، ورؤيته لبعض أصحابه الذين سيغزون بعد موته ويركبون البحر، ورؤيته عليه الصلاة والسلام لمفاتيح خزائن الأرض التي وضعت بين يديه، وللملائكة وهي تخبره بأن عائشة رضي الله عنها ستكون زوجة له ـ وذلك قبل زواجه بها ـ.. ومنها: رؤيته صلى الله عليه وسلم في مسيلمة الكذاب، الذي ادعى النبوة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض، فوضع في كفي سواران (ما يوضع في معصم اليد من الحلي) من ذهب، فكبرا علي، فأوحى الله إلي أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة) رواه البخاري. فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا بأن هذين السوارين يكونان كذابين يخرجان، وقيل في سبب تأويل السوارين بالكذابين: لأن السوارين وضعا في غير موضعهما، لأنه ليس من حلية الرجال، وكذلك الكذاب يضع الخبر في غير موضعه. وفي هذا الحديث دلالة على أن رؤيا الأنبياء حق، وفيه: دليل من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم في تحقق ما رآه في مسيلمة الكذاب بعد ذلك.

مسيلمة الكذاب: 

مسيلمة الكذاب رجل من بني حنيفة اسمه مسيلمة بن ثمامة، كان قد تسمى بالرحمان فكان يقال له "رحمان اليمامة"، وكان يعمل كثيرا من أعمال الدجل، وادعى النبوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أشهر مدعي النبوة في التاريخ الإسلامي، وقد أظهر الله عز وجل كذبه، ولصق به لقب الكذاب، وعرف واشتهر في كتب السير والتاريخ والتراجم بمسيلمة الكذاب..
في العام التاسع من الهجرة النبوية جاء وفد بني حنيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعة عشر رجلا فيهم مسيلمة الكذاب، فأسلموا ونزلوا في دار بنت الحارث التي كانت مخصصة للوفود، أما مسيلمة فكان يطمع في الملك والرياسة فاستنكف عن الإسلام، وكان يقول لمن حوله: "إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته". فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته أقبل إليه ومعه ثابت بن قيس، وفي يده صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد النخل، فقال صلى الله عليه وسلم لمسيلمة: (لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وهذا ثابت يجيبك عني، ثم انصرف عنه) رواه مسلم. وفي رواية: (ولن تعدو أمر الله فيك.. وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت) أي: وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت من الرؤيا.
قال النووي: "قال العلماء: إنما جاءه صلى الله عليه وسلم تألفا له ولقومه رجاء إسلامهم، وليبلغ ما أنزل إليه.. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولئن أدبرت ليعقرنك الله): أي إن أدبرت عن طاعتي ليقتلنك الله ـ والعقر القتل، وعقروا الناقة قتلوها ـ، وقتله الله تعالى يوم اليمامة، وهذا من معجزات النبوة". وفي رواية البخاري قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن تعدو أمر الله فيك). قال النووي: "قال القاضي: هما صحيحان، فمعنى الأول: لن أعدو أنا أمر الله فيك، من أني لا أجيبك إلى ما طلبته مما لا ينبغي لك من الاستخلاف أو المشاركة، ومن أني أبلغ ما أنزل إلي، وأدفع أمرك بالتي هي أحسن.. ومعنى الثاني: ولن تعدو أنت أمر الله في خيبتك فيما أملته من النبوة وهلاكك دون ذلك، أو فيما سبق من قضاء الله تعالى وقدره في شقاوتك".
وقد أراد مسيلمة الكذاب إظهار كرامات تشبه معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فأظهر الله كذبه فيها. قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "وذكر أهل السير والتاريخ أنه (مسيلمة الكذاب) كان يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم (في معجزاته)، بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في بئر فغزر (كثر) ماؤه، فبصق في بئر فغاض ماؤه (قل وذهب في الأرض) بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجا (شديد الملوحة والمرارة)، وتوضأ وسقى بوضوئه نخلا فيبست (جفت) وهلكت، وأتى بولدان يبرك عليهم (يجعل فيهم بركة) فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه (تحول لسانه من حرف إلى حرف غيره)، ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمي".

رسائل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيلمة الكذاب:
كتب مسيلمة الكذاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا يدعي فيه مشاركته في الرسالة، ويساومه في اقتسام الملك والسيادة في جزيرة العرب، فقال: "من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الإسلام: سلام عليك، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟ قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما) رواه أحمد. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "فمضت السنة أن الرسل لا تقتل". قال صاحب "عون المعبود": "فيه دليل على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام". وقال الشوكاني في كتابه "نيل الأوطار": "تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام أو سائر المسلمين".
فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم رسالة في آخر السنة العاشرة من الهجرة كما ذكر ابن كثير وغيره، وأعطاها إلى حبيب بن زيد رضي الله عنه، وفيها: "(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين)". فكان مسيلمة ـ كما قال ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" ـ: "إذا قال لحبيب رضي الله عنه: ": "أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، وإذا قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع، فعل ذلك مرارا، فقطعه مسيلمة الكذاب عضوا عضوا، ومات شهيدا رحمه الله".

مسيلمة وكذبه على الوحي:
فضح الله عز وجل مسيلمة على الأشهاد، فلا يكاد يذكر اسمه إلا ويقرن بلفظة "الكذاب"، وفي الأمثال المشهورة: "أكذب من مسيلمة"، وقد اتخذ مسيلمة مقرا ومكانا له باليمامة، ونظم كلاما ـ ساقطا وسخيفا ـ مضاهاة للقرآن الكريم بزعمه الكاذب، وقصده بعض الناس ليسمعوا منه بعد أن اشتهر أمره، وتمكن من التأثير في بعضهم ـ حقدا أو جهلا ـ، وكان ممن قصده المتشمس بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، فلما خرج من عنده قال عنه: "إنه كذاب"، وقال عنه الأحنف بن قيس: "ما هو بنبي صادق، ولا بمتنبئ حاذق (ماهر وعاقل)".
ومما قاله مسيلمة الكذاب وادعى أنه أوحي إليه: "والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما".. قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "وقد أورد أبو بكر بن الباقلاني رحمه الله في كتابه "إعجاز القرآن" أشياء من كلام هؤلاء الجهلة المتنبئين كمسيلمة، وطليحة، والأسود، وسجاح، وغيرهم مما يدل على ضعف عقولهم وعقول من اتبعهم على ضلالهم ومحالهم" وقال: "فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن فهو أخس من أن ننشغل به وأسخف من أن نفكر فيه، وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضل، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع". وذكر الطبري في: "تاريخ الأمم والملوك": "قدم طلحة النميري إلى اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه! رسول الله، فقال: لا حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك كذاب، وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر"، أي أنه آثر اتباع مسيلمة الكذاب مع استبانته لكذبه، على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بصدقه، وذلك من باب العصبية لمسيلمة الكذاب، ومن باب آخر هو حقده على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}(الأنعام:33).

مقتل مسيلمة الكذاب:
قتل مسيلمة الكذاب في معركة اليمامة أيام خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في آخر السنة الحادية عشر وأول السنة الثانية عشر من الهجرة النبوية الشريفة، وقد قتل على يد وحشي رضي الله عنه الذي أسلم بعد قتله لحمزة رضي الله عنه في أحد.. وذكر في مقتل مسيلمة أن وحشي بن حرب رضي الله عنه رماه بحربته فقتله، وأجهز عليه أبو دجانة سماك بن خرشة الساعدي الخزرجي الأنصاري البدري. ففي حديث البخاري أن وحشي رضي الله عنه لما سئل عن قتله لحمزة رضي الله عنه في غزوة أحد، سرد كيفية قتله لحمزة رضي الله عنه ثم قال: (فلما قبض (مات) رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب، قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس، فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة (فتحة) جدار، كأنه جمل أورق (أسود)، ثائر الرأس (شعره منتشر متفرق)، قال: فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه (في صدره) حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته، قال: قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار: أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين (أي تندب مسيلمة الكذاب، إذ كان أتباعه يلقبونه تارة بأمير المؤمني، وتارة بالنبي)، قتله العبد الأسود (أي: وحشي)). وكان وحشي رضي الله عنه يقول: "قتلت بحربتي هذه خير الناس في الجاهلية - حمزة ـ، وشر الناس في الإسلام - مسيلمة الكذاب ـ".
سجدة شكر من أبي بكر عند مقتل مسيلمة:
الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسجدوا شكرا لله تعالى كلما تجددت لهم نعمة أو انصرفت عنهم نقمة، وقد تعلموا ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم في "زاد المعاد": "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسر، أو اندفاع نقمة ، كما في "المسند" عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره، خر لله ساجدا شكرا لله تعالى"، وذكر سعيد بن منصور أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سجد حين جاءه قتل مسيلمة".

محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله) رواه البخاري. قال النووي: "قد وجد من هؤلاء خلق كثيرون في الأمصار وأهلكهم الله تعالى وقطع آثارهم، وكذلك يفعل بمن بقي منهم".. ومن المعلوم يقينا أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ولا نبي بعده بالنص والإجماع، قال الله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما}(الأحزاب:40). قال ابن كثير: "فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بالطريق الأولى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) رواه البخاري. قال القاضي عياض: "نكفر من ادعى نبوة أحد بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها.. وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين". 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة