الإبهار.. في آيتي الليل والنهار

0 5

أمر الله تبارك وتعالى عباده أن يتفكروا في خلق السموات والأرض وما جعل الله فيهما من الآيات الباهرات، والدلائل البينات، والمعجزات القاهرات الدالة على عظمته وحكمته وكامل قدرته.
وقد حوى الكون من هذه الآيات ما يبهر العقول القويمة والنفوس السليمة والفطر المستقيمة ويجعل الإنسان يقر بعظمة خالق الكون، ويؤمن به وبربوبيته وألوهيته.

وكثير من آيات الله تخفى على الناس لشدة ظهورها، أو لدوام اعتيادها؛ فتغفل القلوب والعقول عنها.. ومن هذه الآيات ما دل الله عليه بقوله: {وجعلنا الليل والنهار آيتين ۖ فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة}[الإسراء:12]، وقوله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}(آل عمران: 190)، وقال: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون}[يس:37].

فالليل آية من أعجب آيات الخالق سبحانه، ولذلك أقسم الله تعالى بها في كتابه أكثر من مرة، وبين فضله على عباده في وجودها وتقلبها وإتيانها وذهابها وتقلب الليل مع النهار، قال سبحانه: {والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس}[التكوير:17]، وأقسم به إذا غشي الشمس حين تغيب: {والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها}[الشمس:4]، وإذا غطى الخلائق بظلامه: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى}[الليل:1، 2]، وأقسم به إذا سكن فأظلم: {والليل إذا سجى}[الضحى: 2].

ومن عجيب صنع الله في هذه الآية ودلائل قدرته وقوته وإحكام ملكه أنه يدخل الليل في النهار والعكس، ويورد أحدهما على الآخر في سلاسة عجيبة وتدرج مبهر وانسيابية خلابة؛ حتى ينتقل الناس من أحدهما إلى الآخر بدون فزع أو خوف، قال سبحانه: {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل}[لقمان: 29]، وقال: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون} [يس: 37].

وخلق الليل بعد النهار رحمة من الله بعباده، فإنه سبحانه جعل النهار للسعي في الأرض وطلب الرزق، والاجتهاد والعمل، ولابد لهم بعد التعب والنصب من السكون والراحة: {وجعلنا الليل لباسا . وجعلنا النهار معاشا}[النبأ: 10ـ11]، وأخبر أنها رحمة منه بهم فقال: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}[القصص: 73]. {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}[غافر:61].

وقد كان سبحانه قادرا أن يجعل حياتهم كلها ليلا بلا نهار أو نهارا بلا ليل، ولو فعل ما قدر أحد على تغيير خلقه ومراده، ولكنه خلاف الحكمة؛ كما بين ذلك جل وعلا بقوله: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ۖ أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ۖ أفلا تبصرون (72)}[القصص:71].

والليل محل النوم.. والنوم نعمة أخرى من نعم الله الجسيمة، يحتاجه الغني والفقير، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، وبفضل من الله جعله يسيرا في كل مكان، ويناله كل مخلوق بلا ثمن، ليس بمتاع يحمله المسافر فيجهد، ولا بذي ثمن يفقد الفقير ثمنه فيحزن، ولا ذي عرض يعجز الضعيف والصغير عن نقله. تغمض العينان فترتفع الروح، فينال الجسد الراحة والسكون، قال عز وجل: {وجعلنا نومكم سباتا}[النبأ: 9].

وهو من آيات الله العظيمة الدالة على قوته وجبروته، قال جل شأنه: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار}[الروم: 23]. يميت البشر بالنوم ثم يوقظهم متى شاء إذا شاء، ولا ينام هو لكمال حياته وقيوميته، فلا تأخذه سنة ولا نوم، وفي الحديث: (إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، ولكن يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل)[رواه مسلم].

واليقظة أيضا نعمة
وكما أن النوم نعمة وآية فكذلك اليقظة بعد النوم آية أخرى من آيات ذي الجلال والإكرام؛ فإن النوم قسيم الموت ويذكر به، وهو وفاة صغرى، كما قال سبحانه: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذ لك لآيات لقوم يتفكرون}[الزمر:42]. ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند نومه: (إن أمسكت نفسي فارحمها)[متفق عليه].. وعند البخاري عن حذيفة بن اليمان قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام قال: باسمك اللهم أموت وأحيا).

فاليقظة بعد النوم حياة جديدة، فكم من نائم مات في نومته، وكم من نائم نام سنين طويلة كأصحاب الكهف، والعزير نبي الله، نام الأوائل ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ونام الآخر مائة عام، ولولا أن الله بعثهم من نومهم لما قاموا إلى يوم القيامة.. فاليقظة من النوم نعمة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يشكر الله ويحمده إذا استيقظ.. كما في صحيح البخاري: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام قال: باسمك اللهم أموت وأحيا، وإذا استيقظ من منامه قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).

الليل كله نعم
والليل محل نعم كثيرة، دنيوية وأخروية.. ومن نعم الله الشرعية في الليل:
أن الصلاة فيه أفضل الصلاة بعد الفرائض؛ فقد روى مسلم في صحيح عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)[رواه مسلم].

أن التأثر بالقرآن فيه أكبر، وتعلق القلوب فيه بالله أرجى، قال سبحانه: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا}[المزمل:6]. فأمر الله رسوله بالإكثار من الصلاة والتسبيح فيه: {يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا}[المزمل:2]، وقال: {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا} [الإنسان: 26]، واقتفى الصالحون أثره فـ {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون}[الذاريات:17ـ18].

أن فيه صلاة الوتر، والله وتر يحب الوتر، وصلاة آخر الليل مشهودة، ومن صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله.

أن العبد يكون فيه أقرب إلى الله من غيره: فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) [رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح غريب].

ودعاء الليل مسموع، وأقرب للإجابة
؛ خصوصا في جوف الليل ووقت السحر وقت النزول الإلهي فإنه سبحانه يتفضل على عباده فينزل في ثلث الليل الآخر ليقضي حاجاتهم ويفرج كرباتهم فيقول: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) [رواه البخاري].
وفي صحيح مسلم: (إن في الليل ساعة لا يوافقها مسلم يسأل خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة).

ودعوة المستيقظ من الليل مع الذكر مستجابة، وصلاته مقبولة، قال عليه الصلاة والسلام: (من تعار من الليل ـ أي: استيقظ ـ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا إلا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)[رواه البخاري].

وفي الليل ليلة القدر، وفيه بدأ نزول القرآن، ونزلت فيه آيات التوبة على الثلاثة الذين خلفوا، فقبول التوبة فيه أرجى من غيره.
وهو جنة المتعبدين، ومتعة القائمين، ومنحة المحبين، يخلون فيه برب العالمين، فالسعيد من تفكر في آياته، وانتفع بأوقاته، فأراح بدنه، وأراح قلبه ونفسه، وتقرب إلى ربه، واغتنم ساعاته بالقربات، وتزود فيه بالأعمال الصالحات ومجانبة السيئات.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة