حقيقة الإيمان بِالْقَدَرِ والنهي عنِ الخَوْضِ فيه

0 356

القدر هو: تقدير الله تعالى الأشياء حسبما سبق به علمه واقتضت حكمته، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدره.. قال الشيخ ابن عثيمين: "القدر: تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته". والإيمان بالقدر يعني: التصديق الجازم بأن كل خير أو شر فهو بقدر الله عز وجل، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ومع ذلك فقد أمر الله عز وجل العباد ونهاهم، وجعلهم مختارين لأفعالهم، غير مجبورين عليها، بل هي واقعة بحسب إرادتهم، والله تعالى يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.. والإيمان بالقدر مبناه على التسليم لله تعالى، والاعتقاد أنه سبحانه لا يفعل شيئا إلا عن علم تام وحكمة بالغة..

وقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع المسلمين على الإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الأدلة على ذلك:
ـ أولا: الأدلة من القرآن الكريم:
1 ـ قال الله تعالى: {وكان أمر الله قدرا مقدورا}(الأحزاب:38). قال ابن كثير: "أي: وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن". وقال السعدي: "أي: لا بد من وقوعه".
2 ـ وقال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}(القمر:49). قال ابن كثير: "قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، كقوله: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}(الفرقان:2) وكقوله: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى}(الأعلى:1ـ 3) أي: قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية (فرقة ضالة ينفون القدر وينكرونه)".
3 ـ قال الله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}(الفرقان:2). قال السعدي: "أي: أعطى كل مخلوق منها ما يليق به ويناسبه من الخلق وما تقتضيه حكمته من ذلك".
4 ـ قال الله تعالى: {من نطفة خلقه فقدره}(عبس:19). قال ابن كثير: "أي: قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد.. وقال مجاهد: هذه كقوله: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}(الإنسان:3) أي: بينا له ووضحناه وسهلنا عليه عمله، وهكذا قال الحسن".
ـ ثانيا: الأدلة من السنة النبوية على الإيمان بالقدر:
بينت السنة النبوية أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، ولا يتم إيمان العبد إلا به، وهوأحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) رواه الترمذي. قال ابن حجر: "(وتؤمن بالقدر خيره وشره)..والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين". وقال المناوي: "(وتؤمن بالقدر خيره وشره) أي: بأن تعتقد أن ذلك كله بإرادة الله تعالى وخلقه تعالى، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن".
ـ ثالثا: الإجماع على الإيمان بالقدر:
أجمع المسلمون على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، قال النووي في "شرح صحيح مسلم": "وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد (العلماء والفضلاء الذين يرجع الناس إليهم) من السلف والخلف على إثبات قدر الله تعالى". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى". وقال الحافظ عبد الغني المقدسي في "تذكرة المؤتسي": "وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره بقضاء الله وقدره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلا، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلا، فهو سر استأثر به، وعلم حجبه عن خلقه {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}(الأنبياء:23)".
العقل والإيمان بالقدر:
العقل الصحيح يقطع بأن الله عز وجل هو خالق هذا الكون، ومدبره، ومالكه، وجميع المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة، وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة، تعين أن يكون لها موجد وخالق وهو الله رب العالمين، قال الله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون}(الطور:37:35). قال ابن كثير: "أي: أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا". فإذا تقرر عقلا أن الله عز وجل هو الخالق لزم ألا يقع شيء في ملكه إلا ما قد شاءه وقدره.. ومن ثم فقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع المسلمين والعقل السليم ـ الذي لا يصطدم مع الفطرة السوية ـ على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره..

بطلان الاحتجاج بالقدر على الكفر والمعصية:

الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وقد دل على الإيمان به القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع المسلمين، وهو معلوم بالعقل السليم والفطرة السوية، ولم يقع الخطأ في نفي القدر وإنكاره، وإنما وقع في فهمه على الوجه الصحيح، ولهذا قال سبحانه عن المشركين: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا}(الأنعام:148)، فهم أثبتوا قدر الله ومشيئته، لكنهم احتجوا به على الشرك، ثم بين سبحانه أن هذا هو شأن من كان قبلهم، فقال: {كذلك كذب الذين من قبلهم}(الأنعام:148). قال السعدي: "فأخبر تعالى أن هذه الحجة، لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل، ويحتجون بها، فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم، فلم يزل هذا دأبهم حتى أهلكهم الله، وأذاقهم بأسه، فلو كانت حجة صحيحة، لدفعت عنهم العقاب، ولما أحل الله بهم العذاب، لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه، فعلم أنها حجة فاسدة، وشبهة كاسدة، من عدة أوجه: منها: أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة وإرادة، يتمكن بها من فعل ما كلف به، فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله، ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر، ظلم محض وعناد صرف. ومنها: أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم، بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم، فإن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا كفوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر، وأنكر المحسوسات، فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله، ومندرجا تحت إرادته". وقال الشيخ ابن عثيمين: " وقد احتج المشركون بالقدر على شركهم، كما قال الله عنهم: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}(الأنعام: 148). والجواب: قال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا}(الأنعام:148) فلم تقبل منهم هذه الحجة، لأن الله تعالى جعل ذلك تكذيبا وجعل له عقوبة: {حتى ذاقوا بأسنا}". وقال ابن تيمية: "وسلف الأمة وأئمتها متفقون أيضا على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة، ومتفقون على أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرم فعله، بل لله الحجة البالغة على خلقه".

النهي عن الخوض في القدر:

الخوض في القدر والتعمق فيه أمر خطير، ربما يؤدي بصاحبه إلى الكفر بالله تعالى، وخسارة دنياه وأخراه، فالواجب التسليم لله تعالى، واعتقاد أنه الحكيم العليم في خلقه وشرعه وقدره، والاعتماد في معرفة القدر على الكتاب والسنة النبوية الصحيحة. وقد نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الخوض في القدر فقال: (وإذا ذكر القدر فأمسكوا) رواه الطبراني وصححه الألباني وغيره وضعفه غيرهم. والمنهي عنه هو الخوض فيه بالباطل والظن وعدم العلم. قال ابن تيمية: "الخوض في ذلك - أي في القضاء والقدر - بغير علم تام، أوجب ضلال عامة الأمم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنازع فيه". وأقوال أئمة وعلماء السنة في القدر وعدم الخوض فيه كثيرة، ومن ذلك:
قال البربهاري في "شرح السنة": "الكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة، منهي عنه عند جميع الفرق، لأن القدر سر الله، ونهى الرب تبارك وتعالى الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخصومة في القدر، وكرهه العلماء وأهل الورع ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك بالتسليم والإقرار والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة الأشياء، وتسكت عما سوى ذلك". وقال أحمد بن حنبل: "من السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لم؟ ولا: كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها". وقال ابن بطة في "الإبانة الكبرى": "وأما الوجه الآخر من علم القدر الذي لا يحل النظر فيه ولا الفكر به، وحرام على الخلق القول فيه: كيف؟ ولم؟ وما السبب؟ مما هو سر الله المخزون وعلمه المكتوم الذي لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، وحجب العقول عن تخيل كنه علمه، والناظر فيه كالناظر في عين الشمس، كلما ازداد فيه نظرا ازداد فيه تحيرا". وقال أبو جعفر الطحاوي في " شرح العقيدة الطحاوية": "وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه (خلقه)، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}(الأنبياء:23)". وقال الشيخ ابن عثيمين: "الخوض في القدر والتنازع فيه يوقع المرء في متاهات لا يستطيع الخروج منها، وطريق السلامة أن تحرص على الخير وتسعى فيه كما أمرت، لأن الله سبحانه أعطاك عقلا وفهما، وأرسل إليك الرسل وأنزل معهم الكتب: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما}(النساء:165)".

الإيمان بالقدر والعمل:
الإيمان بالقدر لا يعني ترك العمل، ولا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرته عليها، قال الله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا}(النبأ:39)، وقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}(البقرة:286). ومشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى وقدرته، فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته، قال الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما * يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما}(الإنسان:31:30). قال السعدي: "فإن مشيئة الله نافذة، {إن الله كان عليما حكيما} فله الحكمة في هداية المهتدي، وإضلال الضال. {يدخل من يشاء في رحمته} فيختصه بعنايته، ويوفقه لأسباب السعادة ويهديه لطرقها. {والظالمين} الذين اختاروا الشقاء على الهدى {أعد لهم عذابا أليما} بظلمهم وعدوانهم".
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (قال رجل يا رسول الله: أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: نعم. قال: فلم يعملون؟! قال: كل يعمل لما خلق له، أو يسر له) رواه البخاري. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسل قال: (ما منكم من أحد وما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع (نترك) العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟! قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء. ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى}(الليل:6:5)) رواه البخاري. قال ابن رجب الحنبلي: " ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب للسعادة أو الشقاوة". وقال ابن تيمية: "جمهور أهل السنة المثبتة للقدر يقولون: إن العبد فاعل حقيقة، وإن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية، بل يقرون بما دل عليه العقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء من السحاب، وينبت النبات بالماء. ولا يقولون: إن قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرون أن لها تأثيرا حقيقيا كتأثير الأسباب في مسبباتها، والله سبحانه خالق السبب والمسبب".. وقال ابن القيم: "لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، والأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله تعالى، والذي خلق الأسباب هو الذي خلق النتائج".

الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، والواجب على المسلم أن يتوكل على الله ويعمل ويأخذ بالأسباب، ويسلم في كل أموره لله عز وجل، ويسارع إلى مرضاته، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.. وللإيمان بالقدر ثمرات كثيرة، منها: الرضا والقناعة بما قسم الله عز وجل، وطمأنينة النفس والقلب، والصبر والثبات عند وقوع المصائب والابتلاءات، والعزة في طلب الحوائج، والإقدام على عظائم الأمور بشجاعة وحكمة ويقين.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة