المبادرة إلى فعل الخيرات

0 305

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد دعا الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين إلى المسارعة إلى الخيرات فقال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} (آل عمران: 133). قال ابن كثير رحمه الله: ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات.
كما حثهم على المسابقة والمنافسة في ذلك فقال: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} (الحديد: 21). وقال سبحانه: { فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير} (البقرة: 148).
قال السعدي رحمه الله: (والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات وحج، عمرة، وجهاد، ونفع متعد وقاصر. ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير، وينشطها، ما رتب الله عليها من الثواب قال: {أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير} فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته، فيجازي كل عامل بعمله {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة، من الصيام، والحج، والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات وآدابها، فلله ما أجمعها وأنفعها من آية).

وقد أثنى الله سبحانه على طائفة من عباده بأنهم يسارعون في الخيرات، وأثنى على عبده زكريا وآل بيته: {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} (الأنبياء: 90). قال السعدي: أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها.
وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال عقبة بن الحارث رضي الله عنه: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: "ذكرت شيئا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته"رواه البخاري. والتبر هو الذهب وقد جاء في بعض الروايات أنه ذهب الصدقة، والمقصود بقوله: يحبسني أي: من التوجه إلى الله تعالى أي يصير شاغلا لي. ويستفاد من الحديث مبادرته إلى فعل الخير وأن من وجب عليه فرض فالأفضل له مبادرته إليه.

وكان صلى الله عليه وسلم يحث أمته على المبادرة إلى فعل الخيرات، فقال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا"رواه مسلم. وهنا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالمسابقة إلى الخيرات والمسارعة بالأعمال الصالحة قبل مجيء الفتن التي تكثر في آخر الزمان، او قبل الانشغال عن الأعمال الصالحة بالشواغل والفتن التي تثبط العامل.
وقال صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال سبعا هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر"رواه الترمذي.
وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول: إنا لله، ذهب درهمي، وهو يذهب عمره، ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات.

لقد كانت للسلف حالات عجيبة من المبادرة إلى الخيرات وفعل الصالحات، فمنهم من كان يسرد الصوم، ومنهم من يقوم الليل، ومنهم من يختم القرآن كل ليلتين، وقد قال الربيع رحمه الله: واعلم أن الراحة لا تنال بالراحة ومعالي الأمور لا تنال بالفتور، ومن زرع حصد ومن جد وجد.
عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رأوا رجلا يصلي في المسجد، قال عمر: فلما كدنا أن نعرفه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". قال: ثم جلس الرجل يدعو فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "سل تعطه سل تعطه". قال عمر رضي الله عنه: قلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه، قال: فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر رضي الله عنه قد سبقني إليه فبشره، ولا والله ما سبقته إلى خير قط إلا وسبقني إليه.(رواه أحمد في المسند)

قال ابن الجوزي رحمه الله: (لله در أقوام شغلهم تحصيل زادهم، عن أهاليهم وأولادهم، ومال بهم ذكر المآل عن المال في معادهم، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلا بمرادهم، وتوسدوا أحزانهم بدلا عن وسادهم، واتخذوا الليل مسلكا لجهادهم واجتهادهم، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم، فيا طالب الهوى جز بناديهم ونادهم:

أحـيـوا فـــؤادي ولـكـنـهـم      على صيحة من البين ماتوا جميعا
حرموا راحة النوم أجفانهم      ولـفـوا عـلى الـزفـرات الضلـوعا
طوال السواعد شم الأنوف      فـطابـوا أصـولا وطابـوا فـروعـا

أقبلت قلوبهم ترعى حق الحق فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق.
فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقلوب في رياض الملكوت ترعى، نازلهم الخوف فصاروا والهين، وناجاهم الفكر فعادوا خائفين، وجن عليهم الليل فباتوا ساهرين، وناداهم منادي الصلاح: حي على الفلاح، فقاموا متجهين، وهبت عليهم ريح الأسحار فتيقظوا مستغفرين، وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين، فلما رجعوا وقت الفجر بالأجر نادى الهجر: يا خيبة النائمين).

والسابقون بالخيرات المبادرون إلى الطاعات والصالحات سيسعدون بها أيما سعادة في قبورهم وفي معادهم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الصالح عند موته فكان مما قال عنه إذا وضع في قبره: "ويمثل عمله له في صورة رجل حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثياب، فيقول: أبشر بما أعد الله لك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، فيقول: بشرك الله بخير، من أنت، فوجهك الوجه الذي جاء بالخير؟ فيقول: هذا يومك الذي كنت توعد، أو الأمر الذي كنت توعد، أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله بطيئا عن معصية الله، فجزاك الله خيرا"أخرجه أحمد. والشاهد أن هذا الرجل الصالح كان سريعا في طاعة بطيئا عن معصيته.
ومما يعين على ذلك قصر الأمل واليقين بالموت واستحضاره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هادم اللذات الموت"رواه الترمذي والنسائي.
كذلك معرفة حقيقة الدنيا وحقارتها، فإنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (الرعد: 26). ويقول: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (الحديد: 20).
فطوبى لمن بادر عمره القصير، فعمر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وإعراض النصير. نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لفعل الخيرات وترك المنكرات، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة