الحَسَدُ والعَيْنُ

0 389

الحسد: هو البغض والكراهة لما يراه الحاسد من حسن حال المحسود، وهو من الأمراض القلبية التي تصيب بعض الناس بسبب الغيرة وعدم الرضا بقدر الله عز وجل. وفي "القاموس المحيط": "الحسد مصدره حسده يحسده ويحسده.. وحسده: تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته، أو يسلبهما". قال القرطبي: "والحسد مذموم، وصاحبه مغموم، وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.. وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.. ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل". وقال الشيخ ابن عثيمين: "الحسد: هو كراهة ما أنعم الله به على غيره، وليس هو تمني زوال نعمة الله على الغير، بل هو مجرد أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره، فهذا هو الحسد سواء تمنى زواله أو أن يبقى، ولكنه كاره له، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: الحسد كراهة الإنسان ما أنعم الله به على غيره".. والعين: في اللغة مشتقة من عان، والعين هي عضو الإبصار والرؤية في الكائن الحي، وتطلق كذلك على الشخص الذي كانت ترسله العرب لتجسس أخبار الغير، والعين تعني أيضا إصابة الآخر بالعين، فيقال: عان الرجل، أي: أصابه بالعين، فهو عائن، والعين نوع من أنواع الحسد..
وأما الفرق بين الحسد والعين: فالحسد أعم من العين، فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا. والحاسد قد يحسد ما لم يره، والعائن لا يعين إلا ما يراه والموجود بالفعل. قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": "والمقصود: أن العائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد، ولهذا - والله أعلم - إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن، لأنه أعم، فكل عائن حاسد ولا بد، وليس كل حاسد عائنا، فإذا استعاذ من شر الحسد: دخل فيه العين، وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته، وأصل الحسد هو: بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "حقيقة العين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع، يحصل للمنظور منه ضرر". وقال ابن الأثير في "النهاية": "يقال: أصابت فلانا عين، إذا نظر إليه عدو، أو حسود، فأثرت فيه، فمرض بسببها". وقال ابن كثير: "العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل". وقال الشيخ ابن عثيمين: "العين والحسد ليس بينهما فرق مؤثر".

والإيمان بوجود الحسد أو العين من عقيدة المسلم، فقد جاء الحسد والعين في نصوص الوحي من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن ذلك:
أولا: الأدلة من القرآن الكريم:
1 ـ قال الله تعالى حكاية عن نبيه يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أولاده: {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون * ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(يوسف:68:67). قال ابن كثير: "يقول الله تعالى إخبارا عن يعقوب عليه السلام: إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر، ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، فإنه كما قال ابن عباس وغير واحد: إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم، فإن العين حق.. وقوله: {وما أغني عنكم من الله من شيء} أي: إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه، فإن الله إذا أراد شيئا، لا يخالف ولا يمانع.. {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها} قالوا: هي دفع إصابة العين لهم، {وإنه لذو علم لما علمناه} قال قتادة والثوري: لذو عمل بعلمه". وقال السعدي: "وذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.. {ما أغني عنكم من الله من شيء} فالمقدر لا بد أن يكون، {إن الحكم إلا لله} أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع".
2 ـ قال الله تعالى: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}(القلم:51). قال ابن كثير: "قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: {ليزلقونك}: لينفذونك بأبصارهم، أي: يعينوك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة". وقال القرطبي: "{ليزلقونك} أي يعتانونك. {بأبصارهم} أخبر بشدة عداوتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن يصيبوه بالعين". وقال السعدي: "حرصوا (كفار قريش) على أن يزلقوه (النبي صلى الله عليه وسلم) بأبصارهم أي: يصيبوه بأعينهم، من حسدهم وغيظهم وحنقهم، هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعلي، والله حافظه وناصره".
3 ـ قال الله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد}(الفلق:5). قال الطبري: "{ومن شر حاسد إذا حسد} اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شر حسده به، فقال بعضهم: ذلك كل حاسد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شر عينه ونفسه (حسده).. عن قتادة {ومن شر حاسد إذا حسد} قال: من شر عينه ونفسه. قال معمر: وسمعت ابن طاووس يحدث عن أبيه، قال: العين حق". وقال السعدي:" وقوله: {ومن شر حاسد إذا حسد} والحاسد هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من الأسباب، فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره، وإبطال كيده، ويدخل في الحاسد العائن، لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع، خبيث النفس، فهذه السورة، تضمنت الاستعاذة من جميع أنواع الشرور، عموما وخصوصا".
ثانيا: الأدلة من السنة النبوية على الحسد والعين:
1 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا) رواه البخاري. قال ابن عبد البر في "التمهيد": "(لا تحاسدوا) يقتضي النهي عن التحاسد، وعن الحسد في كل شيء على ظاهره وعمومه". وقال ابن رجب: "(لا تحاسدوا) يعني: لا يحسد بعضكم بعضا، والحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل. ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام، فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه، وهو شرهما وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه، وهو كان ذنب إبليس حيث حسد آدم عليه السلام". وقال المناوي: "(ولا تحاسدوا) أي لا يتمنى أحدكم زوال نعمة غيره".
2 ـ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد) رواه ابن ماجه. قال الهروي: "(ولا حسد) أي: لا تمني زوال نعمة الغير".
3 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (العين حق) رواه البخاري. قال الطيبي: "قوله: (العين حق) يقال: أصابت فلانا عين، إذا نظر إليه عدو أو حسود، فأثرت فيه فمرض بسببها، يقال: عانه يعينه عينا فهو عائن إذا أصابه بالعين، والمصاب معين.. أراد بالعين الإصابة بالعين، ومعنى أنه حق أي كائن مقضي به في الوضع الإلهي، لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال".
4 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين) رواه مسلم. قال القاضي عياض: "وقوله: "(ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين): بيان أن لا شيء إلا ما قدره الله، وأن كل شيء من عين وغيره إنما هو بقدر الله ومشيئته، لكن فيه صحة أمر العين وقوة دائه". وقال النووي: "أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقالوا: العين حق، وأنكره طوائف من المبتدعة.. إذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه".

فائدة:

1 ـ الفرق بين الحسد والغبطة: قال ابن منظور: "الغبط أن يرى المغبوط في حال حسنة، فيتمنى لنفسه مثل تلك الحال الحسنة، من غير أن يتمنى زوالها عنه، وإذا سأل الله مثلها فقد انتهى إلى ما أمره به ورضيه له، وأما الحسد فهو أن يشتهي أن يكون له ما للمحسود، وأن يزول عنه ما هو فيه". وقد تسمى الغبطة حسدا كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) رواه مسلم. قال النووي: "(لا حسد إلا في اثنتين) قال العلماء: الحسد قسمان حقيقي ومجازي، فالحقيقي تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما". وقال الرازي: "إذا أنعم الله على أخيك بنعمة، فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد، وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة".
2 ـ قد يحسد الإنسان نفسه ويصيبها بالعين: قال ابن القيم: "وقد يعين الرجل نفسه". والتحرز والوقاية من ذلك يكون بالدعاء بالبركة إذا رأى الإنسان خيرا من نفسه، أو ولده، أو ماله، أو أخيه. عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق) رواه النسائي. قال الصنعاني: "(إذا رأى أحدكم من نفسه أو أهله أو ماله أو من أخيه ما يعجبه) ما يستحسنه ويرضاه (فليدع له بالبركة) وذلك لأن الإعجاب قد تتولد عنه العين فيجب عليه دفع ضررها بأن يقول بارك الله لي أو لك في نفسك وأهلك ومالك، فإن العين حق". وقال ابن كثير: "قال بعض السلف: من أعجبه شيء من ماله أو ولده فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله". وقال ابن عبد البر في "التمهيد": "التبريك قول القائل: اللهم بارك فيه، ونحو هذا".
3 ـ الرقية الشرعية: إذاخاف الإنسان على نفسه أو ولده من العين والحسد، فليرق نفسه أو ولده. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيت، فقال: نعم، قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك بسم الله أرقيك) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان (إنسيا كان أو جنيا) وهامة (الهامة هي كل ما له سم)، ومن كل عين لامة (هي العين التي تصيب بالسوء وتلحق الضرر بمن تنظره)) رواه أبو داود. والرقية الشرعية من الحسد والعين والمرض ثابتة في السنة النبوية الصحيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا) رواه مسلم. قال السيوطي وابن حجر: "قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وبما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى".

الحسد والعين حق، والإيمان بوجود الحسد أو العين لا يعتبر شركا ولا حراما، بل هو من العقيدة لما ورد فيهما من آيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة، ومع ذلك لا ينبغي للمسلم أن ينشغل بالحسد حتى يكون شغله الشاغل، فكل شيء بقضاء الله عز وجل وقدره، ولا ضرر من الحسد والعين وغيرهما إلا بإذن الله، قال الله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله}(يونس107). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (كتبت مقادير الخلائق جميعا، ورفع القلم، فلا زيادة ولا نقصان)) رواه الترمذي. قال النووي: "الأشياء كلها بقدر الله تعالى، ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى وسبق بها علمه، فلا يقع ضرر العين ولا غيره، من الخير والشر، إلا بقدر الله تعالى".. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة