إنّي أرَى ما لا تَرَوْن، وأسْمَعُ ما لا تَسْمَعُون

0 3

 

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم مخلوق وأفضل نبي، وليس في هذا القول مبالغة، بل هو مقتضى الكثير من الأدلة والنصوص من الكتاب والسنة التي بينت عظم قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، ورفعة مكانته، وذلك من خلال الفضائل الجليلة والخصائص الكريمة التي خصه الله عز وجل بها، مما يدل على أنه أعظم الخلق، وأفضل الأنبياء والرسل، وذلك من فضل الله عليه، قال الله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما}(النساء:113). قال ابن كثير: "فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، قطعا جزما لا يحتمل النقيض". وقال السعدي: "فكان أعلم الخلق على الإطلاق، وأجمعهم لصفات الكمال، وأكملهم فيها، ولهذا قال: {وكان فضل الله عليك عظيما} ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من فضله على كل مخلوق. وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به لا يمكن استقصاؤها، ولا يتيسر إحصاؤها". وقال القاضي عياض: "تقرر من دليل القرآن وصحيح الأثر وإجماع الأمة كونه صلى الله عليه وسلم أكرم البشر وأفضل الأنبياء". وقال السيوطي: "ونعتقد أن أفضل الخلق على الإطلاق حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم". وقال السعدي: "فكل الأنبياء لو أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم". وقال الشيخ ابن عثيمين: "وأفضلهم (أفضل الأنبياء والرسل) محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة..) وصلاتهم خلفه ليلة المعراج، وغير ذلك من الأدلة".
والخصوصيات التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم تشريفا وتكريما له دون غيره من البشر في الدنيا والآخرة لا تحد ولا تعد، منها: أنه صاحب الوسيلة والفضيلة وهي أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا عبد واحد من عباد الله، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه صاحب الشفاعة العظمى، والكوثر، وأنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول من يعبر الصراط من الرسل بأمته، وأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تحت لوائه يوم القيامة، وأن الله أعطاه الله جوامع الكلم، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، وأمته خير الأمم، وأرسل إلى الخلق كافة، وختم به النبيون، وهو أول من تفتح له أبواب الجنة فلا تفتح لأحد قبله.. ومن هذه الخصوصيات التي خصه الله عز وجل بها في الدنيا: رؤيته وسماعه ما لا يراه ويسمعه غيره من الناس..

أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون:
أعد الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إعدادا خاصا يتيح له تلقي الوحي من جبريل عليه السلام، ورؤيته والسماع منه، وما يتبعه من رؤية وسماع ما سواه من الأمور الغيبية التي أطلعه الله عليها، كالملائكة والجن والشياطين، ورؤيته لمشاهد من الجنة والنار.. ومن خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي اختصه الله عز وجل وفضله بها في الدنيا أنه كان يسمع ما لا يسمعه غيره، ويبصر ما لا يبصره سواه من أمور غائبة، والأحاديث النبوية الصحيحة الدالة على ذلك كثيرة، ومنها:
1 ـ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر (جمع قبر) ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال صلى الله عليه وسلم: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها (تمتحن وتختبر في القبر، ثم تنعم أو تعذب)، فلولا ألا تدافنوا (فلولا أني أخشى ألا تدفنوا موتاكم) لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع) رواه مسلم. وفي الحديث ثبوت عذاب القبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما لا يسمعه الناس. قال المباركفوري: "(الذي أسمع) أي الذي أسمعه من القبر. وقيل: أي مثل الذي أسمعه". وقال الشيخ الألباني: "النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما لا يسمع الناس، وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، كما أنه كان يرى جبريل ويكلمه، والناس لا يرونه ولا يسمعون كلامه، فقد ثبت في البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال يوما لعائشة رضي الله عنها: (هذا جبريل يقرأ عليك السلام، فقالت: وعليه السلام يا رسول الله، ترى ما لا نرى)".
2 ـ عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء (أصدرت صوتا وصوتت) وحق لها أن تئط (لها الحق في أطيطها وينبغي عليها أن تئط)، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش (أي: ولا هنئ لكم الاستمتاع بزوجاتكم من الخوف والفزع وهول الأمر وشدته)، ولخرجتم إلى الصعدات (الطرق والسبل) تجأرون إلى الله (تتضرعون إلى الله أن ينجيكم ويغفر لكم ويعفو عنكم)) رواه أحمد. قال أبو ذر رضي الله عنه: "لوددت أني كنت شجرة تعضد"، ومعناه: لتمنيت أني كنت شجرة تقطع وتستأصل من مكانها فتفنى وتنتهي". قال الهروي: "(إني أرى ما لا ترون) أي: أبصر ما لا تبصرون، بقرينة قوله: (وأسمع ما لا تسمعون)".
3 ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة (نظر من مكان عال على حصن من حصون أهل المدينة)، فقال: هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر) رواه البخاري. في هذا الحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، ومعجزة ظاهرة له عليه الصلاة والسلام، حيث أخبر ببعض ما وقع بعده، فقد أخبر أصحابه بما يراه ببصره، وهو مواضع سقوط ونزول الفتن التي ستكون في المدينة.. قال الكرماني: "وهذا إخبار بكثرة الفتن في المدينة وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم". وقال الطيبي: "والرؤية بمعنى النظر. أي كشف لي فأبصرها عيانا". وقال ابن بطال: "قال المهلب: مثل للنبي صلى الله عليه وسلم الفتن التي حدثت بعده فرآها عيانا، وأنذر بها عليه السلام قبل وقوعها، وهذه علامة من علامات نبوته، لإخباره عن الغيب في ذلك، فكانت الفتن بعده كالقطر كما أخبر وخبره الصادق المصدوق". وقال ابن حجر: "(أشرف) أي نظر من مكان مرتفع، قوله: (مواقع) أي مواضع السقوط (خلال) أي نواحيها، قد شبه سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم، وهذا من علامات النبوة لإخباره بما سيكون". وقال في موضع آخر: "والرؤية بمعنى النظر، أي كشف لي فأبصرت ذلك عيانا".
4 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلمذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفي) رواه مسلم. قال القرطبي قي "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": "قال بقي بن مخلد: كان عليه الصلاة والسلام يرى في الظلام كما يرى في الضوء. وقال مجاهد: كان عليه الصلاة والسلام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله إني لأبصر من ورائي راجع إلى العلم، وأن معناه إني لأعلم، وهذا تأويل لا حاجة إليه، بل حمل ذلك على ظاهره أولى، ويكون ذلك زيادة في كرامات النبي صلى الله عليه وسلم وفي فضائله، لأن ذلك جار على أصول أهل الحق كما قدمناه". وقال المباركفوري في "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "قيل: هذه رؤية قلب، وقيل: وحي أو إلهام. والصواب أنه رؤية مشاهدة بالبصر. قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: الصواب أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي بحاسة العين: خاص به صلى الله عليه وسلم على خرق العادة.. قال النووي: قال العلماء: معناه أن الله تعالى خلق له صلى الله عليه وسلم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به. قال القاضي: قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية عين حقيقة".
5 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله: رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك كففت؟! فقال: إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط..) رواه مسلم. قال ابن حجر: "قوله: (إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا) ظاهره أنها رؤية عين.. فيجوز أن تنخرق العادة خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم.. ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين بل مرارا على صور مختلفة، وأبعد (أي أخطأ وابتعد عن الصواب) من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم، قال القرطبي: لا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، لا سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا ووجدتا، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه صلى الله عليه وسلم إدراكا خاصا به أدرك به الجنة والنار على حقيقتيهما".

فائدة:

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور غيبية وقعت في حياته، وعن أمور غيبية مستقبلية وقعت كما أخبر بها بعد مماته، كان وحيا من الله عز وجل إليه، وذلك لبيان علو قدره ومنزلته، ودليلا من دلائل نبوته ومعجزة من معجزاته، فإنه صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى، كما قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}{النجم4:3)، إذ لا سبيل إلى معرفة الغيب إلا بوحي من الله عز وجل، قال الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول}(الجـن:27:26). قال البغوي: "{إلا من ارتضى من رسول} إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب، لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب".. وأفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق بما فيهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، هي أفضلية قطعية وليست ظنية، وقد أجمع أهل السنة على ذلك.
ومنهج واعتقاد أهل السنة في تعظيم وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيله على جميع الأنبياء والرسل لا يخرج عن الوسطية في هذا التعظيم والتوقير، وهي وسطية لا غلو فيها ولا جفاء، فلا غلو فيه حتى يرفع صلى الله عليه وسلم إلى منزلة الخالق عز وجل، أو يعتقد فيه ما هو من خصائص الرب سبحانه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني (تبالغوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! لا ترفعوني فوق قدري، فإن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا) رواه الطبراني. ولا جفاء معه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بعدم معرفة علو قدره، وعظم فضله، وأنه أفضل الخلق والأنبياء والرسل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر).

لقد كثرت الفضائل والخصائص التي خص الله عز وجل بها نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومما لا شك فيه أن معرفة المسلم خصائص وفضائل نبيه صلى الله عليه وسلم ـ خلقا وخلقا، وفي الدنيا والآخرة ـ من الدين ومن العلم النافع، ولولا ذلك ما ذكر هذه الخصائص الصحابة رضوان الله عليهم وما نقلوها إلينا بهذا التفصيل الدقيق، ولما ذكرها العلماء في كتبهم بأدلتها الصحيحة.. ومع ذلك لا يجوز أن يعطى للنبي صلى الله عليه وسلم من الصفات والفضائل والخصوصيات إلا ما جاء في القرآن الكريم وصحت به السنة النبوية، فإذا ثبتت له صلى الله عليه وسلم خصوصية أو معجزة من الخصائص والمعجزات الكثيرة الثابتة له صلى الله عليه وسلم وجب التسليم وعدم إخضاعها للعقل البشري، فواجب المسلم نحو الخصائص التي أكرم الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم والتي دلت عليها النصوص الصحيحة هو التسليم، وإن خالف ظاهرها عقله وتفكيره.. ومن هذه الخصائص والفضائل الثابتة والصحيحة لنبينا صلى الله عليه وسلم أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يسمع ويرى ما لا يسمعه ويراه غيره من الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون). قال محمد بن الحسين: "قبيح بالمسلمين أن يجهلوا معرفة فضائل نبيهم صلى الله عليه وسلم، وما خصه الله عز وجل به من الكرامات والشرف في الدنيا والآخرة". 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة