- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:أقليات وقضايا
التاريخ الإسلامي ناصع البياض، ومع ذلك نبتت نابتة سوء من بين كتاب العرب تشكك في التاريخ الإسلامي؛ خاصة في صدره الأول، وتشكك في دوافع الفتح الإسلامي ومراميه.
ولع بعض الأدباء؛ باتهام التاريخ الإسلامي الذي لدينا وسلوك طريقة في التعليل لم يسلكها الأولون ارتيادا لوجوه جديدة وأسباب للحوادث لم تكن معروفة، بحيث يقال: إنهم كشفوا حقائق تاريخية لم يعرفها غيرهم أو عرفوا أسرارا أعماها التاريخ الديني أو عمتها السياسة وأهواؤها على الجمهور، ويسمون ذلك تمحيصا وتحقيقا، ويظنون أن التمحيص والتحقيق هما مجرد المخالفة والخروج عما عليه الرأي العام.
وقد تنبه كتاب إسلاميون لخطورة هذه الفئة منذ زمن فقد كتب شكيب أرسلان رحمه الله تعالى عن هذه الفئة منذ زمن طويل، كتب عن هؤلاء المشككين حيث قال: "إن كان مقصدهم مجرد المخالفة وتغيير الأسلوب لعدم الصبر على طعام واحد فقد أصابوا الغرض، ولكن إن كانوا يزعمون أن التعليلات الغريبة هي الأصل في تلك الوقائع فليسمحوا لنا أن نستعفيهم من التصديق؛ لأننا نعرف التاريخ بالأدلة العقلية والنقلية وملاحظة ما سبق وما لحق واستنباط النتائج من المقدمات، ولا نعرفه تخرصات وافتراضات وأبنية على غير أساس، فإن كان هذا هو التمحيص التاريخي الذي يتوخى بعض العصريين أن يقلد به الإفرنج فلا كان هذا التمحيص الذي هو عبارة عن قلب الحقائق لأجل الإتيان بالبدع، ويجل علماء الإفرنج عن أن يكون تمحيصهم من هذا النمط، وقد خلط منهم من خلط في معرض التمحيص ولكن نبه المدققون منهم على أنهم خلطوا".
فعندما يقوم واحد فيذهب إلى أن تاريخ حرب اليمامة محاط بالغموض، وأن مقاتلة أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة لم تكن من أجل إقامة الدين بل من أجل تأسيس الملك، وما أشبه ذلك من التوجيهات التي لم يقم عليها أدنى دليل، نعلم أنه حاول أن ينهج مناهج الممحصين فظن التمحيص مجرد الخروج عن الإجماع.
وعندما يقوم آخر فيدعي أن السلف في صدر الإسلام كانت لهم آلية لغربة الشعر الجاهلي المشرب مبادئ الوثنية أو النصرانية أو اليهودية، نعلم أن هذه الدعوى مبنية على الافتراض والتخيل، وأنها لا تستند على دليل بل الواقع يناقضها من كل الجهات.
أعجبتني جدا عبارة أحدهم في رده على هذه الفئة فقال لهم: من من ملوك المسلمين وحكامهم أمر بوأد الشعر الوثني واليهودي والنصراني ومحوه؟ من من أعوان هؤلاء الحكام تولى ذلك؟ وكيف كانت طريقة المحو؟ وهل كتب لها النجاح في كل بلاد الإسلام؟ … إلخ.
والحقيقة أنه ليس لهم من جواب على هذا السؤال، ولا حيلة لهم في التخلص منه إلا بإيراد أدلة واهية لا تدفع شيئا من حقيقة حرية الرواية في ذلك العصر ومن كون بابها بقي مفتوحا على مصراعيه.
الواقع أن مراقبة الكتب والخطب كانت تقع في رومية والقسطنطينية لعهد عظمة القياصرة، وفي أيام سلطة الباباوات، وفي عهد ملوك فاتحين كلويس الرابع عشر، وقد بالغ فيها نابليون الأول ثم نابليون الثالث، وقد وقعت من أيام العرب في عهد العباسيين وغيرهم من ملوك الأعاجم، أو الملوك العرب الذين اتخذوا أطوار الأعاجم، فأما القول بأنها كانت في عهد الخلفاء الراشدين وفي أيام الصحابة فمحض تحكم ومكابرة.
نعم كان هؤلاء الناس من شديدي التحمس بالدين الجديد الذي جاءهم به محمد ﷺ ولكن حماستهم هذه لم تقلع ما في قلوبهم من حب الحرية التي نشئوا عليها في الجاهلية والتي لا يوجد في الشرق ولا في الغرب أمة بلغت شأو العرب فيها، ومن قال: "إن العرب أعرق الأمم في الحرية" فغير مبالغ، لهذا تجدهم رووا بألسنتهم وكتبوا بأقلامهم جميع مطاعن المشركين في النبي ﷺ وصحبه ولم يخفوا منها قليلا ولا كثيرا، ونقلوا الشبه والاعتراضات التي كانت تقع على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وذكروا كثيرا مما كان يرد به بعض العرب على رسول الله ﷺ وكيف أن الخارجي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله"، فقال عليه الصلاة والسلام:( قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر)، وغير ذلك مما هو مستفيض في كتب السيرة النبوية وأخبار صدر الإسلام، ومما رواه الرواة المسلمون وحرره الكتبة المسلمون وأقرأه العلماء المسلمون، ولم يكن عندهم حرج في نقل تلك الأحاديث وإبرازها كما جاءت؛ لأنهم كانوا على بينة من دينهم الذي دانوا به، وكانت قلوبهم مطمئنة بالإيمان، وكانت سيرة النبي ﷺ معلومة عندهم بدقائقها، فلم يكونوا يحتاجون فيها إلى "غربال"؛ درءا للشبهات عنها وخوفا من أن يفضي تداول هذه الروايات إلى زعزعة عقيدة الإسلام التي لم تكن منذ جاء بها صاحبها ﷺ إلى اليوم على شفا جرف هار، إن الإسلام مولود رزق الصحة ووثاقة التركيب منذ ولادته.
نعم في هاتيك الأيام وما يليها كانوا يردون أهاجي بعض الشعراء للصحابة والأنصار و"لبنى النجار" وفي تلك الأيام كان يعاتب الرسول ويقال له:
ما كان ضرك لو عفوت فربما .. .. من الفتى وهو المغيظ المحنق
في أيام السلف كان ينادي الأخطل:
ولست بصائم رمضان عمري .. .. ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بقائـل ما عشــــت يوما .. .. قبيل الصبح حي على الفلاح
كان يقول هذا ويدخل على الخلفاء ويجيزونه الجوائز السنية، وكان هو وغيره من النصارى واليهود يفتخرون بدينهم ويعلنونه في أشعارهم التي كان يرويها المسلمون ويقيدونها في دفاترهم، ولما جاء الملك النعمان بن المنذر رجل نصراني في اليوم الذي كان عنده يوم بؤس وأمر النعمان بقتله، استماحه النصراني مهلة أن يذهب ويودع أهله، فأذن له، على أن يقدم كفيلا يحل محله في القتل إذا هو لم يرجع، فرجع، وتعجب النعمان من وفائه، فسأله: ما حملك على الوفاء؟ فأجابه النصراني: حملني ديني! فقال له النعمان: وما دينك؟ قال له: النصرانية. وتنصر النعمان بعد هذه.
فكانت هذه الرواية مما حرره المسلمون ولم يغمطوا النصرانية حقها، ولا غمطوا اليهودية أيضا حقها، وأجمع العرب المسلمون علي نقل مآثر السموأل، وكان السموأل يهوديا، وما زال السموأل مضربا للأمثال في علو النفس وكرم السجية إلى يومنا هذا، حتى قال شوقي
كأن من السموأل فيه شيئا فكل جهاته كرم وخلق
فكيف يكون المسلمون الأوائل حاولوا خنق كل صوت غير صوتهم ومحوا آثار النصرانية واليهودية والوثنية من شعر العرب؟
ثم إن شعر شعراء النصرانية في الجاهلية يملأ الدواوين "وما منهم إلا من حرص علماء الإسلام على التنبيه أنه كان نصرانيا، وقد نقلوا خطب قس بن ساعدة الذي كان مطرانا.
فيا إخواننا، إن التاريخ لا يكون بالظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وهذا نتف من كثير، ووشل من بحر؛ فإن كنتم مع هذا تصرون على المخالفة لأجل المخالفة فليس هذا مما يزيد الثقة بعلمكم، بل هو ينقصها، وبدلا من أن يضع العلم على قواعد اليقين يضعه على قواعد واهية كبيت العنكبوت.