خطر الفتوى من غير علم

0 291

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإن من أعظم ما ابتليت به أمة الإسلام جرأة بعض الناس على الفتيا والاجتهاد في دين الله بغير علم ولا صلاحية لهذا المقام العظيم؛ ذلك أن المفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغ عن الله تعالى.
يقول ابن القيم رحمه الله: (ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد على العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟! فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف هو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب؛ فقال تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب} [النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدا، وموقوف بين يدي الله).

ومما يدل على خطورة القول على الله تعالى بغير علم ولا أهلية لذلك قول الله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (الأنعام: 144)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"متفق عليه.
التحذير من التعالم
إن التعالم الكاذب هو عتبة الدخول على جريمة القول على الله بغير علم، المحرمة لذاتها تحريما أبديا في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وهو مما حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أمته منه أشد التحذير.
فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرأون القرآن، يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ". ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "هل في أولئك من خير؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار"أخرجه البزار والطبراني في الأوسط.
وعن عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال - صلى الله عليه وسلم -:"إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج" رواه البخاري.
فها هو العلم في زماننا قد قل واستدبر.
ذكر أبو عمر بن عبد البر  عن مالك قال:(أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟، وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالحبس من السراق).
وأفضح ما يكون للمرء دعواه بما لا يقوم به، وقد عاب العلماء ذلك قديما وحديثا، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون، ويقدرون أنهم يصلحون).
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: (يلزم ولي الأمر منعهم -أي من الفتيا- كما فعل بنو أمية، إلى أن قال: وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب ومداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟!).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: (ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه، ونهاه أن يعود، وتواعده بالعقوبة إن عاد).
وقال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: (من أقرهم من ولاة الأمور فهو آثم).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه ينبغي أن يكون على المفتين محتسب، وقال: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟!.
وقال الإمام الماوردي رحمه الله: (وإذا وجد -المحتسب- من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ، ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف أنكر عليه التصدي لما هو ليس من أهله، وأظهر أمره لئلا يغتر به).
فينبغي لمن تصدى للتعليم والإفتاء أن يكون أهلا لذلك، وإلا فهو خائن للأمانة، ينطبق عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة"، قيل: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"رواه البخاري.
قال ابن الحاج رحمه الله في كتابه " المدخل " بعد أن حكى من حال بعض المنتسبين إلى العلم ما لا يليق بهم: (ولهذا المعنى كان سيدي أبو محمد -ابن أبي جمرة -رحمه الله إذا ذكر له واحد من علماء وقته ممن ينسب إلى طرف مما ذكر، ويثنى عليه إذ ذاك بفضيلة العلم، يقول: " ناقل، ناقل " خوفا منه -رحمه الله- على منصب العلم أن ينسب إلى غير أهله، وخوفا من أن يكون ذلك كذبا أيضا، لأن الناقل ليس بعالم في الحقيقة، وإنما هو صانع من الصناع، كالخياط والحداد والقصار …).
وعن معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي قال: (كان زائدة لا يحدث أحدا حتى يمتحنه، فإن كان غريبا قال له:من أين أنت؟، فإن كان من أهل البلد، قال: أين مصلاك؟، ويسأل كما يسأل القاضي عن البينة.
فإذا قال له، سأل عنه، فإن كان صاحب بدعة، قال: لا تعودن إلى هذا المجلس، فإن بلغه عنه خير أدناه وحدثه، فقيل له: يا أبا الصلت، لم تفعل هذا؟ قال: أكره أن يكون العلم عنده، فيصيروا أئمة يحتاج إليهم، فيبدلوا كيف شاءوا).

مصيبة تصدر الجهلة والأصاغر
وهي مصيبة المصائب فترى من كان صريع الجهل، متشبعا بما لم يعط، ينصب نفسه مرجعا للفتيا، ويتملكه العجب فيلمز أكابر العلماء، ويفري أعراضهم، ويسفه أقوالهم، فيصد الناس عن سبيل ربهم، بصدهم عن الأدلاء عليه.
وقد كان السلف رحمهم الله ينكرون عليهم أشد النكير ويحذرون من ذلك أشد التحذير، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفه الصغير الكبير).
قال أبو وهب المروزي: (سألت ابن المبارك: ما الكبر؟ قال: أن تزدري الناس، فسألته عن العجب؟ قال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب).
ولقد أصاب المأمون عندما قال -متهكما بهذا الضرب من الطلبة-: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: أنا من أهل الحديث.
وفي هؤلاء يقول أبو الحسن القالي رحمه الله:
لما تبدلت المجـالس أوجــها        غير الذي عهدته من علمائها
ورأيتها محفوفة بسوى الألى        كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشــدت بـيـتا ســائرا متقدما     والعين قد شرقت بجاري مائها
أما الخيام فإنهــا كخيـامـهــم      وأرى نساء الحي غير نسائها

ونختم بكلام الإمام الشافعي رحمه الله حيث يقول: (لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل - مع هذا - الإنصات وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة (أي ملكة وموهبة) بعد هذا، فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة