القرآن والنهضة البشرية

0 148

القرآن كتاب الله الخالد جاء يحمل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، كيف لا؟ وهوالهداية والنور، وذلك يعني أن يكون هاديا لك، ينير دروب الحياة لك، كما يحجز لك مقعد صدق عند خالقك.
يقول الرافعي رحمه الله تعالى: "لا يشك عاقل أن للقرآن وجها اجتماعيا من حيث تأثيره في العقل الإنساني، وهو معجزة التاريخ العربي خاصة، ثم هو بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله على بسيط هذه الأرض، من لدن ظهر الإسلام إلى ما شاء الله، لا يذهب بحقها اليوم أنها لم تكن من قبل إلا سببا، فإن في الحق ما يسع الأشياء وأسبابها جميعا".

وليس يرتاب عاقل ممن يتدبرون تاريخ العلم الحديث، ويستقصون في أسباب نشأته، ويتشبثون عند الخاطر من ذلك إذا أقدموا عليه؛ وعند الرأي إذا قطعوا به: أنه لو لم يكن القرآن الكريم لكان العالم اليوم غير ما هو في كل ما يستطيل به، وفي تقدمه وانبساط ظل العقل فيه وقيامه على أرجائه، وفي نموه واستبحار عمرانه.

قال مؤلف كتاب ( إعجاز القرآن): "فإنما كان القرآن أصل النهضة الإسلامية، وهذه كانت على التحقيق هي الوسيلة في استبقاء علوم الأولين وتهذيبها وتصفيتها، وإطلاق العقل فيما شاء أن يرتع منها، وأخذه على ذلك بالبحث والنظر والاستدلال والاستنباط، وتوفير مادة الروية عليه بما كان سببا في طلب العلم للعمل، ومزاولة هذا لذاك، إلى صفات أخرى ليس هذا موضع بسطها، وهذا كله كان أساس التاريخ العلمي في أوروبا، فما من موضع في هذا الأساس القائم إلا وأنت واجد من دونه قطعة من الآداب الإسلامية أو العقول الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، فالقرآن من هذا الوجه إنما هو الباب الذي خرج منه العقل الإنساني المسترجل، بعد أن قطع الدهر في طفولة وشباب، وكل دين سماوي فإنما هو طور من أطوار النمو في هذا العقل الإنساني يستقبل به الزمن درجات جديدة في نشأته الأرضية؛ فما التاريخ كله إلا مقياس عقلي درجاته وأرقامه هذه العصور المختلفة التي يستعين العقل منها مقدار زيادته من مقدار نقصانه، فكملت الأديان بالإسلام، واستقام وضع البشرية بالقرآن".

أما من وجه آخر فإن القرآن إنما هو الدرجة الأبدية التي أجاز عليها العالم في انتقاله من جهة إلى جهة، وإنا لمستيقنون أن هذه الدرجة هي نفسها التي سيجيز عليها العالم كرة أخرى ولله عاقبة الأمور.

وأما إن هذا القرآن أصل النهضة الإسلامية، فذلك بين من كل وجوهه؛ غير أننا سنقول في الجهة التي تتصل بنشأة العلوم، إذ هي سبيل ما نحن بصدده؛ يقول مصطفى صادق الرافعي رحمه الله:" اختلف المسلمون في قراءة القرآن لعهد عثمان رضي الله عنه، وبدأت ألسنة الحضريين ومن في حكمهم تجنح إلى اللحن وتزيغ عن الوجوه في الإعراب؛ وجعل ذلك يفشو بين المسلمين بعد أن اضطرب كلام العرب فداخله الشيء الكثير من المولد والمصنوع؛ وذهب أهل الفتن يتأولون عن معاني القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه، وخيف على سنة رسول الله ﷺ وهي الأصل الثاني بعد القرآن؛ ثم فشا الجهل بأمور الدين،.... فكان ذلك كله مما بعث العلماء أن يفترقوا على جهات القرآن؛ حياطة لهذا الدين، وقياما بفروض الكفاية، يستقبل بعضهم بعضا بالرفد والمعاونة، ويأخذون على أطراف الأمر كله، وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة — رضي الله عنهم — يوم كان العلم فروعا قليلة، إذ كانت الأعلام بينة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبوة واضحة، ومن ثم جعلت العلوم تنبع من القرآن ثم تستجيش وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضا".

قال أحد العلماء: فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات؛ إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال، واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة.

واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد، ولفظا يدل على معنيين، ولفظا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره.

واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية، فاستنبطوا منه، وسموا هذا العلم بأصول الدين.
وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن: أصول الفقه.

وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام؛ فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضا.
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء؛ وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.

وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار.

وأخذ قوم بما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك — علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض.
ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت.
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع.

فكان القرآن كتاب الدهر كله — وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة — فعلمنا من صنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني؛ ليخرج للأمة من كل معنى علما برأسه، ثم يعمل الزمن عمله فتخرج الأمة من كل علم فروعا، ومن كل فرع فنونا إلى ما يستوفي هذا الباب على الوجه الذي انتهت إليه العلوم في الحضارة الإسلامية؛ وكان سببا في هذه النشأة الحديثة، والنهضة المجيدة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة