- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:خواطـر دعوية
وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي، الإمام وأحد الأعلام.
كان علما من الأعلام، حافظا من الأثبات، إماما من الأئمة الثقات، كبير القدر، عظيم الشأن، وكان من بحور العلم وأئمة الحفظ..
روى عن الكبار: كسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج أبي بسطام، والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام، وشريك بن عبد الله، وهشام بن عروة بن الزبير بن العوام، والإمام الأعمش سليمان بن مهران، وإسماعيل بن أبي خالد، وابن عون، وابن جريج، وخالد بن طهمان، وابن أبي ليلى، ومسعر بن كدام، وابن أبي ذئب، وخلق كثير.
وروى عنه الأكابر: كسفيان الثوري أحد أخص شيوخه، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ويحيى بن معين إمام الجرح والتعديل، وإسحاق بن راهوية الحنظلي، وعبد الرحمن بن مهدي، والحميدي، ويحيى بن آدم شيخ البخاري، ومسدد بن مسرهد، وبنو أبي شيبة، وأبو خيثمة، وأبو كريب، وابن نمير، وأمم سواهم.
ثناء العلماء عليه
كان وكيع إمام وقته، وقد اعترف له بذلك الكبار..
قال ابن معين: وكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه. وقال يوما: ما رأيت أفضل من وكيع. قيل: ولا ابن المبارك؟ قال: قد كان ابن المبارك له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم.
وقال الإمام أحمد: ما رأيت أحدا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع. وقال مرة: ما رأيت قط مثل وكيع في العلم، والحفظ، والإسناد، والأبواب، مع خشوع وورع.
قال الذهبي: كان أحمد يعظم وكيعا، ويفخمه.
وقال أحمد عن حفظه: كان وكيع مطبوع الحفظ، كان حافظا حافظا، وكان أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيرا كثيرا..
وقد أقر بذلك إسحاق بن راهويه حين قال: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف، وحفظ وكيع أصلي، قام وكيع، فاستند، وحدث بسبع مائة حديث حفظا.
وقال عنه الذهبي: الإمام، الحافظ، محدث العراق، أحد الأعلام. وقال: كان من بحور العلم، وأئمة الحفظ.
وقال صاحب الطبقات: كان وكيع ثقة، مأمونا، عاليا، رفيعا، كثير الحديث، حجة.
وقال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع، وكان جهبذا.
قال عبد الرزاق: رأيت الثوري، وابن عيينة، ومعمرا، ومالكا، ورأيت ورأيت، فما رأت عيناي قط مثل وكيع.
محنة وكيع
وإنما قدمنا لوكيع بهذا بيانا لمكانته وفضله، ولعلو كعبه في العلم والورع والدين، ولقبول العلماء له وتفخيمهم لمكانه وتعظيمهم لقدره، وأنه من أئمة الهدى وحملة السنة..
فقد وقعت لوكيع محنة كبيرة كادت نفسه تزهق بسببها، وهذه المحنة رواها أهل السير والتراجم في ترجمة هذا الإمام الكبير، وذكرها الذهبي في السير، وفي ميزان الاعتدال، وتاريخ الإسلام، وتذهيب التهذيب. وانظر "السير 9 /160".
قال الإمام الذهبي عن هذه المحنة: "محنة وكيع: وهي غريبة - تورط فيها، ولم يرد إلا خيرا، ولكن فاتته سكتة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)[رواه مسلم]، فليتق عبد ربه، ولا يخافن إلا ذنبه".
وملخص هذه المحنة:
أن وكيعا ذهب إلى مكة للحج في سنة أربع وثمانين ومائة أو خمس وثمانين، فطلبوا منه أن يحدثهم، "وكانت شهرته قد طبقت الآفاق"، فحدثهم فيما حدثهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهي: أن أبا بكر الصديق جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فأكب عليه، فقبله، وقال: بأبي وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك.. ثم قال البهي: وكان ترك يوما وليلة، حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه.
قال ابن خشرم: فلما حدث وكيع بهذا بمكة، اجتمعت قريش، ورفعوا أمره إلى العثماني "والي مكة"، وأرادوا صلب وكيع؛ فحبسه الوالي، وعزم على قتله، ونصبت خشبة خارج الحرم..
وذكر ابن عدي أن ذلك كان سنة حج الرشيد، فإما أن الرشيد استشار العلماء فيه، وإما أنه وكل الأمر إلى واليه في مكة ليرى فيه رأيه، فاستشار عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ـ وكان مفتي مكة ـ فأفتى بقتل وكيع، وقال: يجب أن يقتل، فإنه لم يرو هذا إلا من في قلبه غش للنبي صلى الله عليه وسلم. فحبسوه وسجنوه استعدادا لقتله كما سبق.
قال الحارث بن صديق: فدخلت على وكيع لما بلغني، وقد سبق إليه الخبر. فقال لي: ما أرانا إلا قد اضطررنا إلى هذا الرجل، واحتجنا إليه "يعني سفيان بن عيينة شيخ مكة وإمامها". قال الحارث: وكان بينه وبين ابن عيينة يومئذ متباعد.. فقلت: دع هذا عنك، فإن لم يدركك، قتلت. فأرسل إلى سفيان، وفزع سفيان إليه، ودخل على العثماني فكلمه فيه وقال: الله الله، هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيهه، وهذا حديث معروف. قال سفيان: ولم أكن سمعته، إلا أني أردت تخليص وكيع. والعثماني يأبى عليه. فقال له سفيان: إني لك ناصح، هذا رجل من أهل العلم، وله عشيرة، وولده بباب أمير المؤمنين، فتشخص لمناظرتهم. قال: فعمل فيه كلام سفيان، فأمر بإطلاقه.
فرجعت إلى وكيع، فأخبرته، فركب حمارا، وحملنا متاعه، وسافر.
قال الحارث بن صديق: فدخلت على العثماني من الغد، فقلت: الحمد لله الذي لم تبتل بهذا الرجل، وسلمك الله. قال: يا حارث، ما ندمت على شيء ندامتي على تخليته، خطر ببالي هذه الليلة حديث جابر بن عبد الله، قال: حولت أبي والشهداء بعد أربعين سنة، فوجدناهم رطابا يتثنون، لم يتغير منهم شيء. يعني لينة أجسادهم تتثنى أطرافهم.
وقد كان العثماني قد حاول إدراكه إلا أنه فاته فلم يقدر عليه، وتوجه وكيع إلى المدينة.
قال سعيد بن منصور: فكتب أهل مكة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع، وقالوا: إذا قدم عليكم، فلا تتكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه. قال: فعرضوا علي ذلك، وبلغنا الذي هم عليه، فبعثنا بريدا إلى وكيع أن لا يأتي المدينة، ويمضي من طريق الربذة، وكان قد جاوز مفرق الطريقين، فلما أتاه البريد، رد، ومضى إلى الكوفة.
فوائد ودروس وعبر
هذه قصة عجيبة، ومحنة غريبة، وقد كان فيها من العبر والدروس شيء كثير لمن تأمل.. ومن ذلك:
أولا: ليس كل ما يعرف يقال:
قال الذهبي عن المحنة: "تورط فيها ولم يرد إلا خيرا، ولكن فاتته سكتة، وقد قال النبي صلى لالله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع).
وقوله فاتته سكتة: أي أنه لو سكت عن رواية هذا الحديث المنقطع المنكر الضعيف الموهم لما وقع له ما وقع ولكان في سلامة.. فليس كل ما يسمع يحفظ، ولا كل ما يحفظ يقال، وليس كل كلام يصلح أن يقال في كل وقت ولا لكل أحد. وفي الأثر: "حدثوا الناس بما يعرفون".. وهي الفائدة الثانية.
ثانيا: حدثوا الناس بما يعرفون
فاعتبار حال السامع مهم جدا، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ (رواه البخاري)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم".
فأما العوام.. فلا يلامون؛ فليسوا من أهل التحقيق والتدقيق والتأويل والمعرفة ولا الاعتذار.
وأما العلماء فربما يغيب عن بعضهم ما لا يغيب عن البعض، ولذلك قال عبد المجيد بن أبي رواد: "يجب أن يقتل، فإنه لم يرو هذا إلا من في قلبه غش للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال سفيان: "لا قتل عليه، رجل سمع حديثا، فأرواه.
ثالثا: واجب الأمراء صيانة الدين وحمايته
فكما ترون أن الرشيد أحضر العلماء ليروا رأيهم، أو أوكل إلى واليه في مكة أن يفعل ذلك، وأن الوالي استشار العلماء، ورأى قتله لصيانة مقام الديانة، وحماية مقام النبوة.. لا يكذب الله ورسوله.
ومسألة سد الباب أمام الطاعنين في الدين هامة جدا، خصوصا مع انتشار الجهل، وكثرة الفتن ورقة الدين عند الأكثرين؛ ولذلك قال الذهبي رحمه الله: "والقائمون عليه معذورون، بل مأجورون، فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود، غضا ما لمنصب النبوة"اهـ.
وهذا بلا شك فيه صيانة دين العوام، وحماية لحدود الإسلام، وحفظ وحماية الدين وصيانته، فإن الدين إذا ضاع ضاعت الدنيا والآخرة.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان .. .. ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين .. فقد جعل الفناء لها قرينا
وقد أدب عمر صبيغا على أقل من ذلك، فقد كان صبيغ يسأل الناس عن متشابه القرآن، لا ليتعلم وإنما تكلفا، فلما علم به عمر أعد له عراجين وضربه ضربا مبرحا حتى شج رأسه، ثم تركه أياما وفعل به ذلك مرة أخرى، ثم أعاده إلى بلده وأمر الناس ألا يجلسوا معه، فكان الرجل كالبعير الأجرب، كلما جلس مجلسا قام الناس عنه ولو كانوا مائة، حتى كره نفسه، وثاب إلى الحق ورجع وترك ما كان يفعل.. فلما صحت توبته أمر عمر الناس أن يجلسوا إليه.
وفعل عمر هذا من أحكم الحكمة وأعدل العدل، فإن الرجل كان ممن قال الله فيهم، هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ۖ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}[آل عمران:7].
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).
فقد علمت أن القوم كادوا يقتلون وكيعا لأنه روى حديثا ضعيفا يحتمل في ظاهرة التنقص من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفيه طعن في صدقه في (أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)..
فكيف إذا كان الكلام طعنا صريحا في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي القرآن وفي الإسلام، وفي شرع الله وأحكام الشريعة، كأمثال هؤلاء الزنادقة الذين ملؤوا علينا البر والبحر، وخرجوا في القنوات والصحف ووسائل الإعلام والتواصل، يعلنون بالطعن والسب والقدح والكفر.
فلابد من منع هؤلاء من الوصول إلى الناس والتكلم بجهل في الدين، لمنع إشاعة الشبهات، وزعزعة الثوابت في قلوب العوام، وجعل ما هو ركنا ركينا في دين الله ليس بركن؛ فيختلط على الناس دينهم، وتفسد عقائدهم، ويكونوا من أمر الآخرة على خطر عظيم.
رابعا: العلم رحم بين أهله
ونسيان الخلافات عند نزول الملمات والمهمات من صفات العلماء المنصفين المخلصين.
فإن ابن عيينه رحمه الله كان بينه وبين وكيع شيء مما يكون بين الناس، فلم يكونا على وفاق وقت حدوث ما حدث، ومع ذلك عندما بلغ ابن عيينة الأمر سارع في السعي لإطلاق وكيع، والدفاع عنه والاعتذار له، وحتى حمله على الكذب صيانة لرقبة هذا العالم، فزعم أن الحديث حديث رواه الناس وأنه أيضا سمعه، ولم يكن سمعه، وإنما أراد حفظ دم الرجل وتخليصه وألا يؤاخذ بزلة أو خطأ غير مقصود.
خامسا: الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء
وهذه عقيدة بثها النبي في أمته، وعلمها لنا في سنته، فقد ثبت عنه بالإسناد الصحيح عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي، فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقول: بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)[وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وصححه كثيرون منهم النووي والعيني والألباني والأرناؤوط].
قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: "والنبي -صلى الله عليه وسلم- فمفارق لسائر أمته في ذلك، فلا يبلى، ولا تأكل الأرض جسده، ولا يتغير ريحه، بل هو الآن - وما زال - أطيب ريحا من المسك، وهو حي في لحده، حياة مثله في البرزخ التي هي أكمل من حياة سائر النبيين، وحياتهم بلا ريب أتم وأشرف من حياة الشهداء الذين هم بنص الكتاب: {أحياء عند ربهم يرزقون}[آل عمران: 169]".