المحسِّنات المعنوية في القرآن الكريم

0 0

 يندرج علم البديع ضمن علوم البلاغة، وهو في التعريف: "علم يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية المطابقة، ووضوح الدلالة". والمحسنات البديعية يقصد بها تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، ورعاية وضوح الدلالة بخلوها عن التعقيد المعنوي. وهي ضربان: معنوي، يرجع إلى تحسين المعنى أولا وبالذات، وإن كان بعضها قد يفيد تحسين اللفظ أيضا. وضرب لفظي، يرجع إلى تحسين اللفظ أصلا، وإن تبع ذلك تحسين المعنى؛ لأن المعنى إن عبر عنه بلفظ حسن، استتبع ذلك زيادة في تحسين المعنى.

والمحسنات البديعية أنواع عديدة، منها: الطباق، والمشاكلة، وصحة الأقسام، والحديث بداية عن الطباق:

أولا: الطباق

يعرف علماء البلاغة الطباق بأنه "الجمع بين الشيء وضده، أو الجمع بين متضادين بلفظين"، كالصباح والمساء، والليل والنهار، والصيف والشتاء، ونحو ذلك من المتضادات. ويسمى أيضا المطابقة، والتضاد.

و(الطباق) كثير الورود في القرآن الكريم، وربما كان أكثر أنواع البديع ورودا فيه؛ وذلك أن القرآن كثيرا ما يتحدث عن الإيمان والكفر في سياق واحد، أو ما يشبه السياق الواحد، والطاعات والمعاصي، والظلمات والنور، والنفع والضر، والجنة والنار، والسماء والأرض، والحسنات والسيئات، والحياة والموت...إلى غير هذه المعاني المتقابلة، ولذلك كان أسلوب الطباق أصيلا فيه، لا تكلف في الأسلوب ولا ترف، بل هو من مقتضيات الأحوال، إذا ما تأملنا النظر في سياقاته التي ورد فيه. 

ومن أمثلة الطباق في القرآن الكريم الآيات الآتية: 

- قوله تعالى: {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم} (الملك:22).

- وقوله: {الذي خلق الموت والحياة} (الملك:2).

- وقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} (الأنعام:125).

- وقوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} (النساء:80) .

- وقوله: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} (النساء:83) .

- وقوله: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه} (المائدة:16).

- وقوله: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} (المائدة:40) .

- وقوله: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} (الأعراف:58) .

- وقوله: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} (الأعراف:131).

- وقوله: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد} (هود:100).

- وقوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه} (الرعد:11).

- وقوله: {فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} (الحجر:74).

استنادا إلى النصوص القرآنية المتقدمة -وهي قليل من كثير- نستخلص الأمور الآتية:

1- أن القرآن يستخدم أسلوب الطباق كثيرا، وهي كثرة قد تفوق كل أنواع ما يدخل في (علم البديع)، وذلك في المجالات الآتية:

- العظة والاعتبار عندما يقص أنباء الأمم الماضية؛ كقوله تعالى: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد} (هود:100).

- بيان قدرة الله سبحانه، وذلك كقوله عز وجل: {فجعلنا عاليها سافلها} (الحجر:74) .

- للتمييز بين نوعين مختلفين، كقوله سبحانه: {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم} (الملك:22).

- في تمثيل الحقائق تمثيلا يتضمن المدح في جهة، والذم في أخرى، وذلك كقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} (البقرة:257).

- في الكشف عن سلوك قوم ضلوا عن الحق، كقوله عز وجل: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} (الأعراف:131). 

وغير ذلك كثير، قد تتعدد أغراضه بتعدد أمثلته.

2- أن القرآن يستخدم هذا الأسلوب في معان أساسية داخلة ضمن مقتضيات الأحوال، خاصة عندما يجري القرآن مقارنة بين حقيقتين مختلفتين، فيكون التقابل بينهما -حينئذ- واجبا في حكم البلاغة.

3- أن الطباق في القرآن الكريم -ومثله كل فنون البديع- يؤدى دورا مهما في مظاهر إعجازه، وهو سمة عظيمة من سمات أسلوبه، قد سلم -مع كثرته- من التكلف، بل هو آية الحسن ومصدر الإعجاب، بينما نرى كل مسرف فيه يسير ثم يكبوا، ويصيب ثم يخطئ. وللمرء أن يوازن بين قوله تعالى -وقد طابق فيه بين أربعة وأربعة-: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى} (الليل:5-10) وبين قول المتنبي، وقد طابق فيه بين خمسة وخمسة:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي. . .وأنثني وبياض الصبح يغري بي

فالموازنة بينهما تظهر الفرق من حيث نزاهة الألفاظ وجزالتها في القرآن، إضافة إلى دقة التعبير وشرف المعنى، وبالتأكيد هذا غير كائن في قول المتنبي.

هذا، ولم يسلم بيت أبى الطيب المذكور من المآخذات، قال ابن سنان الخفاجي ينقده: "فهذا البيت مع ما به من التكلف، كل لفظة من ألفاظه مقابلة بلفظة هي لها عن طريق المعنى بمنزلة الضد: فأزورهم وأنثني، وسواد وبياض، والليل والصبح، ويشفع ويغري، ولي وبي. وأصحاب صناعة الشعر لا يجعلون الليل والصبح ضدين، بل يجعلون ضد الليل النهار؛ لأنهم يراعون في المضادة استعمال الألفاظ، وأكثر ما يقال: الليل والنهار، ولا يقال: الليل والصبح".

ويمكن أن نقرر على ضوء ما تقدم، أن حسن الطباق يتوقف على أمور ثلاثة: عدم الإسراف فيه. تناسب المعاني بالتضاد. تناسب المعاني بالتقارب.

يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا الصدد: "وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع فلا شبهة أن الحسن والقبح لا يعترض الكلام بهما إلا من جهة المعاني خاصة، من غير أن يكون في ذلك للألفاظ نصيب، أو يكون لها في التحسين أو خلاف التحسين تصعيد أو تصويب".

وعملا بهذه القواعد، حكموا بحسن كثير من النصوص، كما عابوا كثيرا منها.

ثانيا: المشاكلة

عرف الخطيب القزويني (المشاكلة) بأنها "ذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته، تحقيقا أو تقديرا". ومنه قوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى:40) فسمى (الجزاء) سيئة. أما وقوعه تقديرا فقد مثل له بقوله عز وجل: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة} (البقرة:138) أي: تطهير الله.

وأسلوب المشاكلة كثير في القرآن الكريم، نذكر من أمثلته الآتي:

- قوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى:40) على طريق المجاز المرسل الذي علاقته السببية؛ لأنه مسبب عن السيئة، وهذا تعبير اقتضاه الحال؛ لأن فاعل (السوء) جدير بأن يساء إليه، فإطلاق (السيئة) على (الجزاء) أوقع؛ لإقلاعه عن عمل السيئات، وألم على نفسه؛ لأن النفس ترهب أن تعامل بالسوء.

- وقوله عز وجل: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى} (البقرة:194). وقوله سبحانه: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم} (هود:38) سمى (الجزاء) اعتداء وسخرية؛ ليكون أوقع في نفس المعتدي، فيكف عن الاعتداء، وفي نفس الساخر؛ ليقلع عما هو فيه.

ومن هذه البابة أيضا:

- قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194).

- قوله سبحانه: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} (الأنفال:30).

- قوله تعالى: {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (126).

- قوله سبحانه: {قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم} (البقرة:14-15).

- قوله عز وجل: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم} (هود:38).

هذه بعض النصوص التي وردت على أسلوب المشاكلة من القرآن الكريم، وهى ذات ملامح بلاغية آسرة.

- أما قوله تعالى: {ومكروا ومكر الله} (آل عمران:54) أي: جازاهم على مكرهم؛ فإن العدول إلى لفظ (المكر) في جانب الله؛ لتربية الرهبة في نفوس الماكرين؛ لأن الويل كله لمن مكر الله عليه.

- قوله عز وجل: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (طه:126) فيه تهكم بالمخاطب، وتوبيخ على ما قدم؛ لأن الواقع ألا نسيان ولا إهمال، بل جزاء وفاقا، أي: نعاملك اليوم بمثل ما كنت تعاملنا به في الحياة الدنيا. 

ثالثا: صحة الأقسام

ويسميه البعض (صحة التقسيم)، ويعرفه البلاغيون بأنه "عبارة عن استيفاء المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، بحيث لا يغادر شيئا". أو هو "أن يقسم الكلام قسمة مستوية، تحتوي على جميع أنواعه، ولا يخرج منها جنس من أجناسه". أو هو "أن تكون الأقسام المذكورة، لم يخل بشيء منها، ولا تكررت ولا دخل بعضها تحت بعض".  

ومن أمثلته القرآنية ما يأتي:

- قوله تعالى: {هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا} (الرعد:12)؛ إذ ليس في رؤية (البرق) إلا (الخوف) من الصواعق، و(الطمع) في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين. وقد بين ابن أبي الأصبع سر تقديم (الخوف) على (الطمع)، فقال: "ومن لطيف ما وقع في هذه الآية: تقديم الخوف على الطمع؛ إذ كانت الصواعق يجوز وقوعها من أول برقة، ولا يحصل المطر إلا بعد تواتره لا يكاد يختلف؛ لهذا كانت العرب تعد سبعين برقة، وتنتجع فلا تخطئ الغيث". وغير بعيد أن يقال: إن تقديم (الخوف) على (الطمع) من تقديم الأهم على المهم؛ لأن متعلق (الخوف) الحرص على أصل الحياة، ومتعلق (الطمع) الحرص على الزيادة من متع الحياة.

- ومن قبيل صحة الأقسام قوله سبحانه: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} (آل عمران:191) فلم يترك سبحانه قسما من أقسام الهيئات حتى أتى به، وقد جاء ترتيب الهيئات على حسب الأفضلية، فقدم الذكر قياما عليه قعودا، وقدم الذكر قعودا عليه رقودا، وفي هذا من حسن النسق وجودة الترتيب ما فيه. ويجوز حمل التقديم فيها على مراعاة الأكثر فالأكثر؛ لأن ذكر الله قياما أكثر من ذكره قعودا، وذكره قعودا أكثر من ذكره رقودا.

- ومنه قوله عز وجل: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} (يونس:12) فهيئات الدعاء هنا ثلاث، كهيئات الذكر هناك، لكن -كما قال ابن أبي الأصبع- وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة، أوجبتها البلاغة، فتضمن الكلام بها الائتلاف؛ وذلك أن (الذكر) يجب فيه تقديم (القيام)؛ لأن المراد به الصلاة، والقعود لمن لا يستطيع القيام، والاضطجاع للعاجز عن القعود، و(الضر) يجب فيه تقديم الاضطجاع؛ لغلبة الضعف ومبادئ الإعلال وتزيدها، وإذا أزال بعض العلة، قعد المضطجع، وإذا زالت العلة كلها ورجعت القوة قام القاعد. 

- ومنه قوله سبحانه: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} (البقرة:3-4) فالآية الأولى استوعبت جميع الأوصاف المحمودة؛ إذ وصف المؤمنون فيها بجميع العبادات؛ لأن العبادات كلها نوعان: بدنية ومالية، والبدنية قسمان: عبادة الباطن وعبادة الظاهر، والمالية أيضا قسمان: ما يشترك فيه المال والبدن، كالحج والجهاد، وما ينفرد به المال، كالزكاة وصدقة التطوع...فقوله عز وجل: {يؤمنون بالغيب} إشارة إلى عبادة الباطن، وقوله سبحانه: {ويقيمون الصلاة} تصريح بعبادة الظاهر، وقوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} إشارة إلى العبادة المالية. فاستوعبت الآية الأولى جميع الأقسام على الترتيب، فقدم عبادة الباطن على عبادة الظاهر، وقدم عبادة البدن على عبادة المال.

وأما الآية الثانية فقد استوفت أقسام الزمان في قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} فإيمانهم بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم إيمان في الحال، وبما أنزل على الرسل عليهم الصلاة والسلام من قبله إيمان في الماضي، وإيمانهم بالآخرة إيمان بالمستقبل، وعبر عن إيمانهم بالآخرة باليقين؛ ليدل على قوة تصديقهم بالرسول وما أخبر به. قال ابن أبى الإصبع: "فحصل في هذه الآية مع نهاية المدح صحة الأقسام في اللفظ، والمبالغة في معنى المدح، والإيغال في الفاصلة". 

- ومن باب صحة الأقسام قوله عز وجل: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} (فاطر:32) قال ابن الأثير: "وهذه قسمة صحيحة؛ فإنه لا يخلو العباد من هذه الثلاثة: فإما عاص ظالم لنفسه، وإما مطيع مبادر بالخيرات، وإما مقتصد بينهما".

- ومنه أيضا قوله تعالى: {وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون} (الواقعة:7-10) وهذه الآية منطبقة المعنى على الآية التي قبلها؛ فأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون، والسابقون هم السابقون بالخيرات.

ولقائل أن يقول: إن استيفاء الأقسام ليس شرطا، وترك بعض الأقسام لا يقدح في الكلام. وقد ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} (الحشر:20) فذكر أصحاب الجنة دون أصحاب النار؟ أجاب ابن الأثير على ذلك بقوله: "إن استيفاء الأقسام يلزم فيما استبهم الإجمال فيه، كقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} فإنه حيث قال: {فمنهم} لزم استيفاء الأقسام الثلاثة، ولو اقتصر على قسمين منها لم يجز، وأما قوله سبحانه: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} فإنه إنما خص أصحاب الجنة بالذكر؛ للعلم بأن أصحاب النار لا فوز لهم، ولو خص أصحاب النار بالذكر، لعلم أيضا ما لأصحاب الجنة، وكذلك كل ما يجرى هذا المجرى، فإنه إنما ينظر فيه إلى المستبهم وغير المستبهم.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة