أحب العمل إلى الله أدومه.. وإن قل

0 144

غاية المسلم رضا الله تعالى والسعي في محابه، وكلما زاد الإنسان حبا لربه زاد سعيه وسؤاله عن ما يحبه الله ليعمله لينال محبته، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم كثيرا ما يسألون النبي صلى الله عليه وسلم حول هذا الأمر: فيأتيه السائل يسأل: أي الناس خير؟ وسائل: أي العمل أحب إلى الله؟ وآخر يقول: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس.

ومن هذا الباب ما جاء في الصحيحين، ورواه البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه، باب القصد والمداومة على العمل، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل).
وكان عمله صلى الله عليه وسلم ديمة، ففي البخاري أن علقمة النخعي أتى عائشة رضي الله عنها يسألها عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم، قال علقمة: "قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختص من الأيام شيئا؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق؟!

كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة: وأصل الديمة المطر الذي يستمر ويدوم أياما.. وصار يطلق بعد ذلك على كل ما يدوم ويستمر.
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا عمل عملا أثبته، وكان إذا مرض أو منعه شيء عن ورده قضاه من النهار.. وكان يقول كما روى مسلم عن عمر بن الخطاب: (من نام عن حزبه، أو عن شىء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كتب له كأنما قرأه من الليل)... ليرغب الناس الا يتركوا أورادهم، ويحثهم على أن يداموا على أعمالهم. 

ولهذا كان صلوات الله عليه وسلم لا يعجبه أن يقسو الإنسان على نفسه في العبادة، وأن يحملها ما لا تطيق؛ لأن مثل هذا العمل لا تستقيم عليه النفس، ولا تستمر عليه ولا تداوم.
ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد).

وفي البخاري عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا.. وكان أحب الدين إليه مادام عليه صاحبه).
وفي رواية عند أبي داود عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وكان إذا عمل عملا أثبته).
"أي لا يتوقف الله عن إعطائكم الثواب، حتى تملوا أنتم من العمل وتتركوه"، وقيل معناه: "مهما عملت من عمل فإن الله يجازيك عليه، فاعمل ما بدا لك؛ فإن الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل".
والمقصود: لا تكلفوا أنفسكم من الأعمال ما يشق عليكم، فتتركوه بعد ذلك، لأن بالدوام على القليل تدوم الطاعة والذكر، والمراقبة، والنية والإخلاص، والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة.. وفي الحديث: بيان شفقته ورأفته بأمته صلى الله عليه وسلم. وفيه: أن العمل القليل الدائم خير من الكثير المنقطع. ولهذا كان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه.
ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى
إن الشرائع والعبادات ما شرعت للمشقة على الناس، وإزهاق الأنفس، ولا لإهلاك الأبدان، وإنما شرعت لتكون مصدر راحة وسعادة وطمأنينة، وإدخال للسرور على النفس بالطاعة والعبادة والإنس بالله والإقبال عليه بحب ورغبة، ومحبة الوقوف بين يديه، كما قال الله لنبيه: {طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}[طه: 1ـ2].

وغاية العمل الشاق في الغالب أن تمله النفس، وتسأم منه، وتتركه بعد قليل. وأما العمل المستطاع فإنه يدوم ويستمر فيستمر أجره، ويدل على رغبة في العبادة، وتلذذ بالطاعة، وإقبال على الله جل في علاه. وقال: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)[الحج:78]، وقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[البقرة:185]، ومما يروى من الحديث في هذا: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى)رواه البيهقي.
فعلى المسلم أن يتخير عملا يستطيعه ويقدر عليه من صلاة أو صدقة أو بر أو صلة أو غيرها يتقرب به إلى الله، ويداوم عليه؛ حتى يكون من أحب الناس إلى الله.

السلف والمداومة على الأعمال
وقد ورث السلف رضوان الله عليهم هذا من رسولهم، وتأسوا به فيه فكان لهم فيه أسوة حسنة، فكان إذا علمهم شيئا أو عملوا شيئا أثبتوه ولم يتركوه.
جاء علي وفاطمة رضوان الله عليهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه خادما، فأبى عليهما، وقال لا أدع أهل الصفة لا يجدون طعاما وأعطيكم، ثم لما كان من الليل أتاهما.. قال علي: (فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت أقوم، فقال: مكانك فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما، أو أخذتما مضاجعكما، فكبرا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، فهذا خير لكما من خادم)[رواه البخاري]، قال علي: "فما تركتها بعد، قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين"[رواه البخاري]. وهي ليلة المعركة بينه وبين أهل الشام.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس عن عنبسة عن أم حبيبة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بني له بهن بيت في الجنة). قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس.
وفي صحيح مسلم أيضا عن عائشة أنها قالت: "كان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملا أثبتوه".

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي: أني لم أتطهر طهورا، في ساعة ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي).

ومن جنس هذا قوله صلوات الله تعالى عليه وسلم في الحديث الصحيح: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)[رواه أحمد وابن ماجه].

ونختم بما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من القوم: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من القائل كلمة كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال عجبت لها - وذكر كلمة معناها - فتحت لها أبواب السماء). قال ابن عمر: "ما تركته منذ سمعت رسول الله يقوله".

فعلى المسلم أن يكون له في هذا الخير نصيب، وأن يجعل لنفسه عملا يداوم عليه، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها، وإن قل، وإن أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه.. نسأل الله تعالى بمنه ألا يحرمنا فضله.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة