نُصْرَة المظلومين في سِيرة خير المُرْسَلِين

0 188

من شمائل وأخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان ينتصر للمظلومين والمستضعفين، وقد قالت له زوجته خديجة رضي الله عنها لما خاف على نفسه في بداية نزول الوحي عليه: (كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) رواه البخاري. قال الكرماني: "(لتصل الرحم) معناه وتحسن إلى قراباتك، وصلة الرحم الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول إليه، فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالخدمة، وتارة تكون بالزيارة والسلام وغير ذلك. و(الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام الثقل وهو من الكلال الذي هو الإعياء، أي يرفع الثقل، أي يعين الضعيف المنقطع به".. والسيرة النبوية بما فيها ـ من مواقف وأحداث ـ دالة دلالة واضحة على حث وحرص نبينا صلى الله عليه وسلم على نصرة المظلومين والمستضعفين.. والمواقف والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، ومنها:

1 ـ حلف الفضول:
حلف الفضول معاهدة وقعت في مكة المكرمة قبل البعثة النبوية، بين عشائر من قريش، وقد شهده النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتمل عليه من خير وعدل ونصرة للمظلومين.. وهذا الحلف كان تجمعا وميثاقا تنادت فيه المشاعر الإنسانية لنصرة المظلوم، والدفاع عن الحق، ويعتبر من مفاخر العرب قبل الإسلام.. في شهر ذي القعدة لخمس عشرة سنة من عمره صلى الله عليه وسلم كان حلف الفضول، وسببه أن رجلا من زبيد (بلد باليمن) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك.. فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يرد إليه حقه.. وفي رواية ابن هشام في "السيرة النبوية": "فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول"..
وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا   ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا      فالجار والمعتر (الزائر) فيهم سالم
وقد حضر وشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحلف، فإنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من قبل بعثته، كان يشارك قومه حيثما رأى في هذه المشاركة حقا وعدلا، ونصرة للمظلوم، رافضا - من جهة أخرى - كل تصوراتهم الخاطئة، ومعتقداتها الشركية، وأخلاقياتهم الفاسدة.. وإن بريق الرضا والفرح بهذا الحلف ظهر في ثنايا الكلمات التي عبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بقوله فيما رواه أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت). وفي رواية: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه). والمراد بالمطيبين: حلف الفضول، الذي كان في دار عبد الله بن جدعان، وحضره النبي صلى الله عليه وسلم وعمره خمس عشرة سنة..

2 ـ النبي صلى الله عليه وسلم والرجل الإراشي:
قال ابن هشام في "السيرة النبوية"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والبيهقي في "دلائل النبوة"، والسيوطي في "الخصائص الكبرى" وغيرهم: "قدم رجل من إراش (اسم قبيلة) ـ ويقال: إراشة ـ بإبل له مكة، فابتاعها (اشتراها) منه أبو جهل، فمطله بأثمانها (لم يعطه حقه)، فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد (مجتمع القوم وأهل المجلس) من قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش، من رجل يؤدينى (يعينني على أخذ حقي منه) على أبي الحكم بن هشام، فإني رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس (رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهم يهزؤن به ـ لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه، فإنه يؤديك عليه.. فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله: إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله، وأنا غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه، يأخذ لي حقي منه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه، يرحمك الله. قال: انطلق إليه، وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قام معه، قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه، فانظر ماذا يصنع. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه، فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: محمد، فاخرج إلي، فخرج إليه وما في وجهه من رائحة (قطرة دم)، قد انتقع (تغير) لونه (من الخوف)، فقال: أعط هذا الرجل حقه، قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له، قال: فدخل، فخرج إليه بحقه، فدفعه إليه، قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للإراشي: الحق بشأنك، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لي حقي. قال: وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقالوا: ويحك! ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه، فخرج إليه وما معه روحه، فقال له: أعط هذا حقه، فقال: نعم، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه، فأعطاه إياه، قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك! ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط!، قال: ويحكم، والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي، وسمعت صوته، فملئت رعبا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته (رأسه) ولا قصرته (عنقه) ولا أنيابه لفحل (الذكر القوي من كل حيوان) قط، والله لو أبيت لأكلني"..

3 ـ كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما رجع مهاجرو البحر (الحبشة) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟! قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس، إذ مرت عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فقام إليها فتى من فتيانهم فوضع إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت (وقعت) على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت، التفتت إليه فقالت: سوف تعلم، يا غدر (يا غادر، يا ظالم)، إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف يكون أمري وأمرك عنده غدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت.. صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ؟!) رواه ابن ماجه. قال السندي: (يقدس الله) أي: يطهرهم من الدنس والآثام "، وقال المناوي: "(كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم): استخبار فيه إنكار وتعجب، أي: أخبروني كيف يطهر الله قوما لا ينصرون العاجز الضعيف على الظالم القوي، مع تمكنهم من ذلك؟! أي: لا يطهرهم الله أبدا، فما أعجب حالكم إن ظننتم أنكم مع تماديكم في ذلك يطهركم!".

4 ـ أبو مسعود البدري:
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كنت أضرب غلاما لي، فسمعت من خلفي صوتا: اعلم، أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار ـ أو لمستك النار ـ) رواه مسلم. قال الهروي: "(أما): بالتخفيف للتنبيه (لو لم تفعل): أي لو ما فعلت ما فعلت من الإعتاق (للفحتك النار): أي أحرقتك (لمستك النار): أي أصابتك إن ضربته ظلما ولم يعف عنك. قال النووي: فيه الحث على الرفق بالمماليك وحسن صحبتهم، وأجمع المسلمون على أن عتقه هذا ليس واجبا، وإنما هو مندوب وجاء كفارة ذنبه فيه، وإزالة إثم ظلمه عنه".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنه كان يضرب غلاما له، فسمع صوتا من الخلف يقول: (اعلم أبا مسعود) ولم يفقه ما يقول من شدة الغضب، فإذا الذي يتكلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا مسعود، ألم تعلم أن الله أقدر عليك من قدرتك على هذا الغلام؟ يعني تذكر قدرة الله عز وجل، فإنه أقدر عليك من قدرتك على هذا الغلام.. فلما رأى أنه النبي صلى الله عليه وسلم وذكره بهذه الموعظة العظيمة أن الله أقدر عليه من قدرته على هذا العبد، سقطت العصا من يده هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعتقه، أعتق العبد، وهذا من حسن فهمه رضي الله عنه".

أحاديث نبوية في نصرة المظلوم:
1 ـ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل: يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟! قال صلى الله عليه وسلم: تمنعه من ظلمه فذلك نصره) رواه البخاري. قال ابن بطال: "النصر عند العرب الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم: بمنعه من الظلم، من تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة".
2 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري.
قال ابن حجر في "فتح الباري": "قوله: (لا يظلمه) هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام، وقوله: (ولا يسلمه) أي: لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره، ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم".
3 ـ عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، والحرير، والديباج، والقسي (الثياب المصنوعة من كتان مخلوطة بالحرير)، والإستبرق) رواه البخاري.
4 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نصر أخاه بالغيب نصره الله في الدنيا والآخرة) رواه الطبراني. والمراد بنصرته بالغيب: أن يمنع غيبته، وألا يتناوله مع من ذكره بسوء في غيابه، بل يدفع عنه، فمن فعل ذلك كان جزاؤه أن ينصره الله في الدنيا، فيسخر من يدفع عنه وينصره بمثل الذي نصر به أخاه المسلم في غيبته، وفي الآخرة بأن يجعل الله له الأجر والثواب على ذلك..
5 ـ عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته) رواه أحمد وأبو داود. قال صاحب عون المعبود: "والمعنى ليس أحد يترك نصرة مسلم مع وجود القدرة عليه بالقول أو الفعل عند حضور غيبته، أو إهانته، أو ضربه، أو قتله، إلا خذله الله"..

فائدة:
نصرة المسلم لأخيه إذا ظلم، حق واجب وليس من قبيل النوافل. قال ابن تيمية: "نصر آحاد المسلمين واجب بقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وبقوله: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه)". وقال الشوكاني: "يجب نصر المظلوم، ودفع من أراد إذلاله بوجه من الوجوه، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، وهو مندرج تحت أدلة النهي عن المنكر".. وهذه النصرة للمظلوم يشترط لوجوبها ما يشترط لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من القدرة والاستطاعة، وأمن الضرر.. قال النووي: "وأما نصر المظلوم، فمن فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به لمن قدر عليه، ولم يخف ضررا". وقال ابن حجر: "هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين، بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع، وهو الراجح، ويتعين ـ أحيانا - على من له القدرة عليه وحده، إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد، سقط الوجوب". وقال ابن بطال: "وأما نصر المظلوم، ففرض على من يقدر عليه، ويطاع أمره"، وقال: "نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية، فمن قام به، سقط عن الباقين"..

من أخلاق وشمائل نبينا صلى الله عليه وسلم المعروف بها قبل بعثته وبعدها: أنه كان يحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، وينتصر للمظلوم.. والسيرة النبوية زاخرة بالأحاديث والمواقف التي تحث وتؤكد على نجدة المستضعفين، وإغاثة الملهوفين، ونصرة المظلومين.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة