- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:القرآن الكريم
* الأسلوب القرآني في الدعوة إلى الإصلاح
تنوعت أساليب القرآن في الدعوة إلى الإصلاح، بيان ذلك في الآتي:
أولا: أسلوب الأمر: يتجلى هذا الأسلوب في النقاط الآتية:
1- أمر سبحانه بالإصلاح بين المسلمين، ورتب الرحمة في الدنيا والآخرة على ذلك، قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات:10) أي: خافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل، وفي غير ذلك من فرائضه، واجتناب معاصيه، ليرحمكم ربكم، فيصفح لكم عن سالف إجرامكم، إذا أنتم أطعتموه، واتبعتم أمره ونهيه، واتقيتموه بطاعته. وإذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا والآخرة. ودل ذلك، على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة. ومن الرحمة أن لا يتصدع بنيانكم، ولا تتشتت أمتكم، وتصبح جماعات وطوائف متعادية، يقتل بعضها بعضا. قال أبو بكر الجزائري: "ولما لم يتق المؤمنون الله في الإصلاح الفوري بين الطوائف الإسلامية المتنازعة، حصل من الفساد والشر ما الله به عليم في الغرب الإسلامي والشرق". ومن معاني (الرحمة) أيضا في الدنيا والآخرة أن تجري أحوالكم على استقامة وصلاح. قال ابن عاشور: "وإنما اختيرت الرحمة؛ لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين، وشأن تعامل الإخوة الرحمة، فيكون الجزاء عليها من جنسها".
2- أمر الله بالإصلاح بين المسلمين، وجعله شرطا الإيمان، قال عز من قائل: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (الأنفال:1) أي: أحوال بينكم، يعني: ما بينكم من الأحوال، ألفة ومحبة واتفاق. قال أبو السعود: "وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة؛ لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام؛ وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة".
3- أمر الله تعالى بالقول الحسن المعروف السديد، قال سبحانه: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} (البقرة:263) فالإصلاح بين الناس من القول المعروف، قال الضحاك: "نزلت في إصلاح ذات البين". وقال عز وجل: {اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} (الأحزاب:70) ومن معاني القول السديد: الإصلاح بين المتشاجرين.
4- أمر سبحانه بالعفو والصفح وحث عليه؛ والعفو والمسامحة من أوسع أبواب الإصلاح، قال تعالى آمرا بالعفو والصفح: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} (البقرة:109) وقال عز وجل: {وليعفوا وليصفحوا} (النور:22) وقال تعالى: {والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (آل عمران:134) وقال سبحانه: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} (الشورى:40) والآيات في هذا الباب كثيرة ومشهورة.
5- أمر سبحانه بالإصلاح من خلال الدخول في السلم، وعدم المخاصمة، قال عز شأنه: {ادخلوا في السلم كافة} (البقرة:208) أي: الإيمان الذي هو ملزم لسهولة الانقياد إلى كل خير، وهو في الأصل بفتح السين، وبكسرها: الموادعة في الظاهر بالقول والفعل، أي: يا من آمن بلسانه، ليكن الإيمان أو الاستسلام بكلية الباطن والظاهر، ظرفا محيط بكم من جميع الجوانب، فحيط بالقلب والقالب -كما أحاط باللسان- ولا يكون لغرامة الجهل وجلافة الكفر إليكم سبيل، وليكن جميعكم في ذلك شرعا واحدا سواء، كهذا الذي يشري نفسه، ولا تنقسموا، فإن ذلك دليل عدم التحقق في دعوى الإيمان.
ثانيا: الثناء على المصلحين: يظهر هذا الملمح في النقاط الآتية:
1- أنه الله سبحانه رتب الأجر العظيم على الإصلاح بين الناس، قال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} (النساء:114) تأويل الكلام كما قال الطبري: "لا خير في كثير من المتناجين، يا محمد، من الناس، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير". وخص الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام -كما ذكر الآلوسي- إيذانا بالاعتناء بهما؛ لما في الأول من بذل المال الذي هو شقيق الروح، وما في الثاني من إزالة فساد ذات البين -وهي الحالقة للدين- كما في الخبر. عن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، قال: كنت جالسا مع محمد بن كعب القرظي، فأتاه رجل، فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين قوم، فقال محمد بن كعب: أصبت. لك مثل أجر المجاهدين، ثم قرأ: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} الآية، أخرجه ابن أبي الدنيا في مدارة الناس. قال الأوزاعي: "ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار" ذكره القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن).
2- حث الله تعالى على الشفاعة الحسنة، وأنها من الإصلاح الذي يؤدي للخير، قال عز وجل: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} (النساء:85) قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الشفاعة الحسنة هي الإصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة هي المشي بالنميمة بين الناس). قال القرطبي: "فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم".
ثالثا: العرض القصصي: ثمة نماذج قرآنية موجزة في الإصلاح، نستعرض منها الآتي:
1- قصة ابني آدم: قال سبحانه: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين} (المائدة:27-31) يمكن أن نستخلص من مشهد الخصومة بين أخوين بعض الفوائد، نسوقها آتيا:
- المسلم رباني حتى في خصومته، يحرص على مرضاة الله ورضوانه، لا يتحقق بمخالفة أمره، أو بالتمادي في الخصومة، أو بتطويرها إلى حالة فجور، وظلم، وبغي على الآخرين.
- عدم مقابلة السيئة بالسيئة، {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}.
- تذكير المخطئ بالله، وعدم الإفساد، والبعد عن الخصومة، {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}.
- عدم إظهار العقوبة، قال سبحانه: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت:34).
- إذا كانت خصومة ابني آدم قد انتهت بمقتل الطرف الطيب التقي، فالتشريع ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم أوجد فقها وطريقة، وأسلوبا للتصدي لفجار الخصومات، ومنه قوله عز من قائل: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9).
2- قصة موسى والقبطي الذي أراد موسى عليه أن يقتله: قال تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين * فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين * فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} (القصص:15-19) أرشدت هذه القصة إلى عدد من الفوائد للإصلاح:
- أغاث موسى عليه السلام الذي من شيعته؛ لأن نصرة المظلوم دين في الملل كلها، وفرض في جميع الشرائع، فهو الإصلاح بنصرة المظلوم على الظالم، وإرجاع حقه له، وإن لم بفعل ذلك لانتشر الظلم والفساد، الذي يؤدي إلى فساد علاقة الناس ببعضهم.
- وكز موسى عليه السلام للمعتدي كان للزجر؛ ولذلك قال: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}.
- أن من قتل النفوس بغير حق، وزعم أنه يريد الإصلاح في الأرض، فإنه كاذب في ذلك، وهو مفسد كما حكى الله قول القبطي: {إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} فعلى المصلح أن يدفع الخلاف والقتال بالتي هي أحسن، {وما تريد أن تكون من المصلحين} أي: فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن.
- أن يكون متصفا بكظم الغيظ، كما قال: {وما تريد أن تكون من المصلحين} أي: وما تريد أن تكون من المصلحين في كظم الغيظ، ولقد كظم موسى عليه السلام غيظه، ولم يقتله.
- يجب على المصلح أن يسعى بالصلح بين الخصمين بالتراضي بينهما، قال ابن عاشور في تفسير قوله سبحانه: {وما تريد أن تكون من المصلحين} قال: "أي: إنك تحاول أن تكون متصرفا بالانتقام وبالشدة، ولا تحاول أن تكون من المصلحين بين الخصمين، بأن تسعى في التراضي بينهما".
- إخبار الرجل غيره بما قيل فيه، على وجه التحذير له من شر يقع فيه، لا يكون ذلك نميمة، بل قد يكون واجبا، كما أخبر ذلك الرجل لموسى عليه السلام ناصحا له ومحذرا.
- أنه إذا خاف القتل في الإقامة، فإنه لا يلقي بيده في التهلكة، ولا يستسلم لذلك، كما فعل موسى عليه السلام.
- فعل موسى عليه السلام ودعاؤه يفيد أن النعم تقتضي فعل الخير، وترك الشر والإفساد.
- على المصلح أن يكون حياديا في الإصلاح، وفي الحديث مع المختصمين، فلما استغاثه الذي من شعته مرة أخرى، علم أنه رجل كثير المخاصمة، فقال له: {إنك لغوي مبين} (القصص:18).
- أن يتقبل المصلح الوعظ والتذكير من أي أحد، إذا كان فيهما خير للناس والمجتمع، قال تعالى عن القبطي مخاطبا موسى عليه السلام: {إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} (القصص:19).
- يجب حفظ المصلح من أن يمسه أذى، {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين} (القصص:20).
3- موقف موسى مع أخيه هارون عليهما السلام: قال سبحانه: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} (الأعراف:142) ولكن القوم غيروا: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين * ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين * ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين * قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} (الأعراف:148-151) الفوائد الإصلاحية عند اختلاف الآراء المستوحاة من القصة:
- أن يعلم المصلح ملابسات الموضوع، {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري} (طه:92-93) مع أن موسى عليه السلام كان قد قال لهارون قبل أن يخرج: {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} (الأعراف:142).
- أن ينبه خصمه على كف أذاه، وعدم الاستعجال عليه؛ ليبين حجته، {قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} (طه:94).
- ترقيق الكلام والتأدب مع المخالف: {قال يبنؤم} فهذا ترقيق لأخيه، يذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه.
- بيان وجهة النظر بوضوح: {قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} (الأعراف:150) {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} (طه:94).
- تذكير الأخوة بما يفرح الأعداء: {فلا تشمت بي الأعداء} (الأعراف:150) بنهرك لي، ومسك إياي.
- التنبيه على الفرق في المعاملة، {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} (الأعراف:150) فتعاملني معاملتهم.
- دعاء الأخوة المختلفين لبعضهم، {قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك} (الأعراف:151).
4- قصة داود مع الخصمين: قال تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب * يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص:21-26) أرسل سبحانه لنبيه داود عليه السلام ملكين للامتحان، فدخلا عليه من غير باب المحراب، ففزع منهم داود عليه السلام؛ لدخولهما من غير الباب، وبغير الوقت المناسب.
وقد ذكر المفسرون فوائد في قضية الإصلاح عند تفسيرهم لهذه الآيات، منها:
- أن المنصوح وإن كان كبير القدر جليل العلم، لا يغضب ولا يشمئز، بل يبادر بالقبول والشكر والعدل.
- استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم، وأن لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم، فعليه أن يلتزم ضبط النفس، ويتغاضى، ويلتزم الحلم والعفو، ويحكم بالعدل.
- نص الله تعالى على الأخوة، فإن المخالطة بين الأقارب والأصحاب، وكثرة المتعلقات الدنيوية موجبة للتعدي بينهم، وبغي بعضهم على بعض، وأنه لا عن ذلك إلا العمل بتقوى الله، والصبر على الأمور بالإيمان والعمل الصالح.
- على المصلح أن يتروى في الحكم قبل إصداره، ولا ينفعل فيه تحت تأثير قوة كلام خصم ما، وألا يأخذ بظاهر قول واحد، قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته.
- وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا، ولا يتم العدل، إلا بعلم بالواجب، وعلم بالواقع، وقدرة على تنفيذ الحق.
- يحدد التوجيه المقصود من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس، فهي الخلافة في الأرض، والحكم بين الناس بالحق، وعدم اتباع الهوى والتزام التريث والتثبيت والتبيين.
5- نموذج قصة المجادلة: هذا النموذج يقص علينا الحق سبحانه من خلاله أحداث خلاف أسري بين زوجين مسلمين، فأنزل الله تعالى الحكم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة؛ ليبقى الحل الشامل الكامل خالدا، قال عز وجل: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} (المجادلة:1-4) وتفاصل القصة وردت في السنة الشريفة. ومن الفوائد الإصلاحية في قصة المجادلة الآتي:
- الاهتمام بالحياة الزوجية: فالتربية القرآنية الربانية والمتحصلة من قراءة وتدبر القرآن، تقوم بدور عظيم يحافظ على كيان الأسرة والعلاقات الزوجية بالإصلاح والتربية والصبر والاستقرار.
- بيان المشكلة وسببها بوضوح: ذكرت صاحبة القصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مشكلتها، وهي أنها راجعت زوجها في شيء مما أثار غضبه وحفيظته.
- القدرة على استيعاب المشكلة الزوجية وإدارتها: فالزوجة المشتكية رضي الله عنها، لم تتفوه بكلمة تغضب الله ورسوله، بل سألت عن أفضل الحلول التي تتفق مع ظروفها وظروف بيتها وزوجها، وهذا يؤكد على المسؤولية في استيعاب الخلاف العائلي بحكمة خاصة.
- الورع والخوف من الله سبحانه: كان موقف الصحابية المشتكية رضي الله عنها موقفا عظيما وفريدا، فأحداث تلك الواقعة، والملابسات الداخلية التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، ميزت سلوكها الراقي الورع، الذي استوعب أخطاء الزوج من أجل عدم الوقوع في ما يغضب الله عز وجل، وفهمت الهدف العظيم الذي يرنو إليه أي زوجين، وهو حماية كيان الأسرة، من غير إضاعة عبادة الله.
- الفقه في المرجعية للإصلاح: جاءت المشتكية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمه، ومن في ناحية البيت لا يسمع شكواها، فأنزل سبحانه: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله}.
- صفات المصلح: إن تصرفه صلى الله عليه وسلم مع المشتكية لحل مشكلتها، يضع أمامنا الصفات المطلوب توافرها في كل مصلح، فمن تلك الصفات: اهتمام المصلح بموضوع الإصلاح وصاحبه، التواضع، الحيادية، التروي، العدل، والرفق بالرعية.
- إرادتها الصلح: وهذا يتضح من خلال سعيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد منه الحل لمشكلتها.
* أثر الإصلاح في الفرد والمجتمع
يبين الوحي الإلهي أثر الإصلاح على الفرد والمجتمع، نذكر من تلك الآثار ما يأتي:
1- مدافعة الشر عن الناس ببعضهم: قال عز وجل: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (البقرة:251) فبين سبحانه أن من فضله ورحمته بعباده أنه يدفع الشر عن الناس ببعضهم، ولا شك أن الفرقة والخلاف شر بين المسلمين، فإذا لم تدفع شرور بعضهم ببعض جهود بعضهم، لظهر الفساد في الأرض، وتدافع الناس في ما بينهم.
2- الالتئام وعدم التفرق والتمزق: قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} (آل عمران:103) الشاهد أنه سبحانه لما عاب الكفار بالضلال ثم بالإضلال، أمر المؤمنين بالهدى في أنفسهم، وأتبعه الأمر بهداية الغير بالاجتماع، وكان الأمر بالاجتماع المؤكد بالنهي عن التفرق، ربما أفهم الوجوب لتفرد الجميع في كل جزئية من جزئيات العبادة في كل وقت على سبيل الاجتماع، مع الإعراض عن كل عائق عن ذلك، سواء كان وسيلة أو لا، بالنسبة إلى كل فرد، أتبعه بقوله: {ولتكن منك أمة} أي: جماعة تصلح لأن يقصدها غيرها، ويكون بعضها قاصدا بعضا، حتى تكون أشد شيء ائتلافا واجتماعا في كل وقت من الأوقات.
3- قوة هيبتهم وعدم فشلهم وذهب قوتهم: قال جل وعلا: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} (الأنفال:46) وهل أخر المسلمين اليوم إلا تفرقهم والتعادي بينهم وخورهم، وتقاعدهم عن مصالحهم، وتقاعسهم عن القيام بشؤونهم، حتى صاروا عالة على غيرهم!
4- الإصلاح يغيظ الكفار والمنافقين: إن أهل الشر يحاولون أن يوقعوا المسلمين في التهلكة بإيجاد الفتنة والإفساد بينهم؛ قال جل شأنه: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين} (التوبة:47) أي: بخروجهم معكم لن يزيدوكم إلا فسادا وشرا، ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين. وقال تعالى في آية أخرى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} (البقرة:205) فنبه سبحانه على كثرة فساده بقوله: {سعى في الأرض} كلها بفعله وقوله عند من يوافقه {ليفسد} ليوقع الفساد، وهو اسم لجميع المعاصي، {فيها} أي: في الأرض في ذات البين لأجل الإهلاك، والناس أسرع شيء إليه، فيصير له مشاركون في أفعال الفساد.
وقال تعالى حكاية عن أهل النار: {وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار} (ص:62) الأشرار، أي: الأراذل الذين لا خير فيهم، بأنهم قد قطعوا الرحم، وفرقوا بين العشيرة، وأفسدوا ذات البين. ولما يحصل في الخصومات والمشادات من الأضرار العظيمة من سفك الدماء، وذهاب الحقوق، وتجشم العداوات، والإساءة والإيذاء.
فكل ما سبق من الأدلة دافع إلى الحرص على الصلح بين الناس، وحل المشاكل المتأزمة بينهم، فعلى كل مسلم أن يكون رجلا مجاهدا حريصا على أمته من التشتت والتفرق والتمزق والضياع، فيسعى بالصلح بين كل من تحصل بينه وبين أخيه شحناء، إذا وجد نار الغضب تتأجج بالخلافات والمنازعات في ما بينهما، فليحاول التدخل بالصلح؛ ليكون حكما عدلا، مصلحا بأقواله، وباذلا في ذلك ما يستطيعه منجاه، أو فعل، أو مال، إذا تطلب الأمر ذلك؛ حتى يطفئ تلك النار الملتهبة! فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، قال: (اذهبوا بنا نصلح بينهم) رواه البخاري. فعلى كل مسلم أن يكون مشاركا فاعلا في هذه الحياة بنفع إخوانه، مسابقا في ميادين الإصلاح والعمل المثمر، مسارعا إلى ما يؤلف بين القلوب، ويرفع مستوى أمته، فيسمو بين الورى بحسن الثناء، ويسعد في آخرته عند الله، {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} (التوبة:120). فكم علاقة بين إخوة في الله كادت أن تتمزق، وكاد أن يقع القتال بسبب خلاف سهل، فإذا بهذا المصلح بكلمة طيبة، ونصيحة غالية، ومال مبذول، يعيد المياه إلى مجاريها، والحياة إلى طبيعتها.
5- دفع حركة الدعوة إلى الله تعالى وقوتها: فالدعوة إلى الله تحتاج إلى جهد كل مسلم آمن بالله ربا، لكي يتم الله هذا الأمر، وإذا حصل خلاف أو خصومة بين أفراد المجتمع -وهم جزء من المجتمع- يتأثر المجتمع بما يحصل بينهم من خير أو شر، وصرفت طاقات وأفكار وأموال وأوقات في هذا الخلاف، ثم مثلها وأكثر منها، لكي يعوض هذا الخلل، ويرأب الصدع، وأقل ضرره تعطيل سير الدعوة إلى الله، والإنتاجية النافعة إلى أن يصطلحا.
ولذا، فالإصلاح بين الناس واجب وضرورة، واجب إذا تنازعوا ليصلح أمر الناس، وضرورة لا بد منها لتستقيم الحياة، وقد قال عز من قائل آمرا بالإصلاح: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات:10) وقال أيضا: {أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} (البقرة:224).
* مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة التفسير الموضوعي).