ظهور الفِتَن مِنْ علامات الساعة

0 1

الساعة كما قال ابن الأثير: "الوقت الذي تقوم فيه القيامة، وقد سميت بذلك لسرعة الحساب فيها، أو لأنها تفاجئ الناس في ساعة فيموت الخلق كلهم بصيحة واحدة". وقال ابن منظور: "قال الزجاج: معنى الساعة في كل القرآن الوقت الذي تقوم فيه القيامة". وقال الشيخ ابن عثيمين: "والساعة هي القيامة". وقال السعدي في تفسيره لقول الله تعالى: {اقتربت الساعة}(القمر:1): "يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها".. وأشراط وعلامات الساعة هي مجموعة من الأحداث تسبق يوم القيامة، ويدل وقوع بعضها على قرب يوم القيامة. قال الجوهري: "أشراط الساعة علاماتها". وقال القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها}(محمد:18): "أشراطها أي أماراتها وعلاماتها". وقال الحليمي: "أما انتهاء الحياة الأولى فإن لها مقدمات تسمى أشراط الساعة وهي أعلامها". وقال البيهقي في تحديد المراد من الأشراط: "أي: ما يتقدمها من العلامات الدالة على قرب حينها"..
وقد اصطلح العلماء على تقسيم أشراط الساعة وعلاماتها التي تسبق وقوع القيامة وتدل على قرب حصولها، إلى قسمين: الأول: أشراط أو علامات الساعة الصغرى، وهي التي تقدم الساعة ـ في الغالب ـ بأزمان طويلة، ومنها ما وقع وانقضى ولن يتكرر وقوعه ـ مثل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ـ، ومنها ما وقع وانقضى - وقد يتكرر وقوعه -، ومنها ما ظهر ولا يزال يظهر ويتتابع، ومنها ما لم يقع إلى الآن، ولكنه سيقع كما أخبر نبينا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقد يظهر بعضها مصاحبا للأشـراط الكبرى أو بعدها.. وعلامات أو أشراط الساعة الصغرى كثيرة، منها: قبض العلم وظهور الجهل، وضياع الأمانة، وكثرة القتل، وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق، والتطاول في البنيان، وظهور الفتن.. وغير ذلك مما جاء في الأحاديث النبوية الصحيحة. والقسم الثاني: أشراط أو علامات الساعة الكبرى: وهي الأمور العظام التي تظهر قرب قيام الساعة، مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وإخراج الله تعالى دابة من الأرض تميز المؤمن من الكافر، وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك..

ظهور الفتن وشدتها:
ظهور الفتن من أشراط وعلامات الساعة الصغرى. ومعنى الفتنة في اللغة: الابتلاء والاختبار والامتحان. قال ابن منظور في "لسان العرب": "الفتن: جمع فتنة، وهي الابتلاء والامتحان والاختبار، ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه". وقال الأزهري في "تهذيب اللغة": "جماع معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان". وقال ابن الأثير في "النهاية": "الفتنة: الامتحان والاختبار.. وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار من المكروه، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء". وبنحو من هذا قال ابن حجر في "فتح الباري". ومعاني الفتنة في القرآن الكريم والسنة النبوية كثيرة، منها: الابتلاء والاختبار، والشرك والكفر، والوقوع في المعاصي والنفاق، واشتباه الحق بالباطل، والقتل، واختلاف الناس وعدم اجتماع قلوبهم، وغير ذلك من معان.. قال ابن حجر في "فتح الباري": "ويعرف المراد حيثما ورد بالسياق والقرائن".. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط وعلامات الساعة ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل، فتزلزل الإيمان في القلوب، حتى يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا. والأحاديث النبوية الصحيحة في ذلك كثيرة، ومنها:

1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا، فليعذ به) رواه البخاري. (من يشرف لها تستشرفه) أي: من يتطلع إليها ويتعرض لها تغلبه وتهلكه، (ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به) أي: من وجد طريقا يتقي به المشاركة في هذه الفتن فليفعل، وليعصم دينه ودنياه من الخوض فيها.
قال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "في هذا الحديث ما يدل على أن الفتن شر كلها، وإن القاعد خير من القائم، فإن مني (أصيب) بها، فإن كان قاعدا فلا يقم، وإن كان قائما فلا يمش، وإن كان ماشيا فلا يسع. وأراد بهذه الألفاظ صلى الله عليه وسلم أن كل حركة في الفتن فتنة، ويصل من الشر إلى التحرك فيها بمقدار حركته منها. وقوله: (من تشرف لها تستشرفه) أي من تطلع إليها تسلية تأخذه غلبة، فلا ينبغي لأحد أن يتطلع إلى شيء من الفتن فإنها تعلو عليه". وقال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": "الحديث إلى آخره كله: تضمن الإخبار عن وقوع فتن هائلة عظيمة بعده، والأمر بالكف عنها والفرار منها".
2 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي) رواه ابن ماجه. وفي رواية لأبي داود: (قالوا فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم (الزموا بيوتكم)). قوله صلى الله عليه وسلم: (فتنا كقطع الليل المظلم) كناية عن شدتها وضررها، فكأن كل واحدة من تلك الفتن قطعة من الليل المظلم.. والمقصود من الحديث: أن ظهور الفتن وشدتها من علامات الساعة، وأن التباعد عن الفتن خير، في أي مرتبة كانت. قال النووي: "معناه: بيان عظم الفتنة وخطرها، والحث على تجنبها والهرب منها، ومن التسبب في شيء، وإن شرها وفتنتها يكون على حسب التعلق بها، أي كلما بعد الإنسان من مباشرتها يكون خيرا". وقال الكرماني في "شرح المصابيح": "إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم) أي: تكون فتنة ملتبسة شائعة في الدنيا، لفظاعتها واستمرارها".
3 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فال: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم (ينزع العلم من الأرض)، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان (تقل بركته)، وتظهر (تكثر) الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل، القتل - حتى يكثر فيكم المال فيفيض) رواه البخاري.
قال ابن حجر في "فتح الباري": "وهذه المذكورات وأمثالها مما أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع بعد قبل أن تقوم الساعة، لكنه على أقسام، أحدها: ما وقع على وفق ما قال، والثاني: ما وقعت مباديه ولم يستحكم، والثالث: ما لم يقع منه شيء ولكنه سيقع".
4 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا (بمتاع منها ذاهب فان)) رواه مسلم.
قال ابن هبيرة: "في هذا الحديث من الفقه الحث على مبادرة الفتن بالأعمال، فإن من الفتن ما يعرض للقلوب فتصبح مؤمنة وتمسي كافرة في تلك الفتنة، فتثبط العامل عن عمله، أو بعمله ما يعمل على ارتياب وشك؛، فلا ينفعه عمله، وهذه الفتن قد يكون فيها ما يعم الناس، وقد يكون فيها ما يخص". وقال النووي في "شرح مسلم": "معنى الحديث: الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة، كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، ووصف صلى الله عليه وسلم نوعا من شدائد تلك الفتن وهو: "أنه يمسي مؤمنا ثم يصبح كافرا" أو عكسه - شك الراوي -، وهذا لعظم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب".
وقال القرطبي: "(بادروا بالأعمال فتنا) أي: سابقوا بالأعمال الصالحة هجوم المحن المانعة منها، السالبة لشرطها المصحح لها الإيمان، كما قال: (يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا)، ولا إحالة ولا بعد في حمل هذا الحديث على ظاهره، لأن المحن والشدائد إذا توالت على القلوب أفسدتها بغلبتها عليها.. ومقصود هذا الحديث: الحض على اغتنام الفرصة، والاجتهاد في أعمال الخير والبر عند التمكن منها، قبل هجوم الموانع". وقال ابن رسلان:"(إن بين يدي الساعة فتن) جمع فتنة، (كقطع الليل المظلم) قطع: جمع قطعة، وهي الطائفة من الليل، أراد أن كل فتنة سوداء مظلمة، وشبه الفتن بالليل المظلم تعظيما لشأنها وعظم خطرها. يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي وقد صار كافرا، ويمسي الرجل مؤمنا بالله تعالى ويصبح كافرا.. فيه إخبار عن سرعة تغير أحوال الناس في الفتن لكثرة ما يشاهدون من الأهوال العظيمة".
5 ـ عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشراط الساعة أن يفيض المال، ويكثر الجهل، وتظهر الفتن) رواه الحاكم. (إن من أشراط الساعة) أي: علاماتها التي تدل على اقتراب قيامها.. قال ابن حجر في "فتح الباري": "وأما قوله: (وتظهر الفتن) فالمراد كثرتها واشتهارها".

فائدة:
الفتن ـ والتي من معانيها الابتلاء والاختبار ـ من سنن الله تعالى في خلقه حتى يتبين الصادق في إيمانه من الكاذب، قال الله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت:3:2). قال السعدي: "يخبر تعالى عن تمام حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال "إنه مؤمن" وادعى لنفسه الإيمان، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن، فإنهم لو كان الأمر كذلك، لم يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة، أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة".. وقد جعل الله عز وجل هذه الفتن لاختبار العباد، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (امتي هذه مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا: الفتن، والزلازل والقتل والبلايا) رواه أبو داود. قال الطيبي: "الحديث وارد في مدح أمته صلى الله عليه وسلم واختصاصهم من بين سائر الأمم بعناية الله تعالى ورحمته عليهم، وأنهم إن أصيبوا بمصيبة في الدنيا حتى الشوكة يشاكها، أن الله يكفر بها في الآخرة ذنبا من ذنوبه وليست هذه الخاصية لسائر الأمم ويؤيده ذكر هذه وتعقيبها بقوله: (مرحومة) فإنه يدل على مزيد تميزهم بعناية الله ورحمته". وقال الصنعاني: "(أمتي هذه أمة مرحومة) بين ذلك بقوله (ليس عليها عذاب في الآخرة) بل يعجل لها ما يكفر عنها الذنوب كما قال (إنما عذابها في الدنيا الفتن) فيما بينها وإذاقة بعضها بأس بعض (والزلازل) التي تفزع أهلها (والقتل والبلايا) عام للمصائب كلها"..

من رحمة الله تعالى بنا أن أرسل إلينا نبيا رؤوفا رحيما، أرشدنا وبين لنا أمور الخير التي تنفعنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا.. ومن ذلك: بيانه أسباب النجاة والوقاية من الفتن، ومن أهم وأعظم هذه الأسباب: الاعتصام بالكتاب والسنة ـ علما وعملا ـ على ضوء فهم السلف الصالح. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي) رواه الحاكم. وكذلك من أسباب النجاة من الفتن ـ مع الابتعاد عنها وعدم المشاركة فيها ـ التعوذ منها. عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) رواه مسلم. قال الكرماني: "(تعوذوا بالله) أي: اطلبوا منه أن يدفع عنكم". وعن معاذ بن جبل ومالك بن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: (وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون) رواه الترمذي. قال الهروي:"(فتوفني غير مفتون) إشارة إلى طلب العافية واستدامة السلامة إلى حسن الخاتمة". وقال ابن رجب: "المقصود من هذا الدعاء سلامة العبد من فتن الدنيا مدة حياته، فإن قدر الله عز وجل على عباده فتنة قبض عبده إليه قبل وقوعها، وهذا من أهم الأدعية، فإن المؤمن إذا عاش سليما من الفتن ثم قبضه الله قبل وقوعها وحصول الناس فيها، كان في ذلك نجاة له من الشر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتعوذوا من الفتن ما ظهر منها وما بطن".. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة