الأمر بالتفاؤل والنهي عن الطيرة وأثره في البناء النفسي

0 0


كان الرجل الجاهلي قبل الإسلام ضعيف البنية النفسية، حتى إن حركة طير إلى جهة من الجهات تجعله يشعر بالقلق، وتضطرب عليه نفسه، ويتوقع حصول المكروه، فيرجع عن قراره في السفر أو الزواج أو غيره، بل حتى في الحروب فإنهم قد يحجمون عن قرار الحرب لنعيق غراب، أو كلمة طائشة يسمعونها، وقد يقدمون بناء على مثل ذلك مما يتفاءلون به من الأمور الغريبة.

هذا الإنسان الجاهلي ظل يربط بين أمور مفترقات بأوهامه ووساوسه، فكانوا إذا أرادوا فعل أمر أو تركه زجروا الطير حتى يطير، ثم يحكمون من حركاته على ما سيحدث ويقع، حتى جاء الإسلام ليؤسس بناءه النفسي والروحي على أساس الحقائق لا الأوهام، فعلمه أن الطير يتحرك بقدر الله، ولا علاقة لحركته بما يقدره الله للعبد من خير أو شر، وأن التفاؤل وحسن الظن وتوقع الخير هو الأساس الذي ينبغي، وأن الطيرة ضعف وهزيمة.
 
معنى التطير:
قال الجاحظ في كتاب " الحيوان": "وأصل التطير إنما كان من الطير ومن جهة الطير، إذا مر بارحا أو سانحا، أو رآه يتفلى وينتف، حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عن ذلك وتطيروا، كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال. فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء".

قال ابن حجر في فتح الباري: "وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له؛ إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم:

ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم

والحاتم هو الغراب لأنه يحتم بالبين والفراق بزعمهم، وبعض النسخ: وحائم بالهمزة.

وقال آخر:
الزجر والطير والكهان كلهم                               مضللون ودون الغيب أقفال 
وقال آخر:
 وما عاجلات الطير تدني من الفتى                      نجاحا ولا عن ريثهن قصور 
وقال آخر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى                    ولا زاجرات الطير ما الله صانع

الأحاديث الواردة في الطيرة:


وردت نصوص كثيرة في النهي عن الطيرة، وما يلحق بها من التشاؤم بالمخلوقات، وجعل ذلك من الشرك، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى، ولا طيرة، ولا صفر.
وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك، قالوا: يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك
 
الفأل الحسن: 

وهو يعني: حسن الظن بالله تعالى، والرغبة والرجاء بما عند الله، ويبعث على الاستعانة والتوكل على الله، ويثمر النشاط والسرور، وتقوية النفس، وانشراح الصدر، وتسكين المخاوف، وبعث الآمال. ففي الحديث عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطيرة. رواه ابن ماجه.
وفي السنن الكبرى للبيهقي عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد سهل لكم أمركم.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده فقال له: لا بأس، طهور إن شاء الله.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أن الله عز وجل قال: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن شرا فله.

قال ابن بطال في شرح البخاري: كان النبي عليه السلام يستحب الاسم الحسن والفأل الصالح، وقد جعل الله في فطرة الناس محبة الكلمة الطيبة والفأل الصالح والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى والمنظر الأنيق، وقد يمر الرجل بالماء الصافي فيعجبه وهو لا يشربه، وبالروضة المنثورة فتسره وهي لا تنفعه...ونقل عن الخطابي انه قال: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله تعالى، والطيرة وإنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه. انتهى

الفرق بين التطير والفأل:

الفرق واضح بين الطيرة التي هي موروث جاهلي، وبين التفاؤل الذي هو منهج إسلامي، وتأثير كل على البناء النفسي للإنسان، فالنفس إذا اتكلت على حركة طير، أو كلمة إنسان، صارت مجمع الضعف والوهن، فتوقع حدوث المصيبة مصيبة قبل المصيبة، تضعف العزيمة، وتفك رباط الإرادة، فالمتشائم مظلم النفس، مكدر الخاطر، بينما التفاؤل يجعل الفرد يقبل على الحياة بإيجابية عالية، لأنه يتوقع حصول الاحتمال الإيجابي، ويتأمل بتحقيق رغباته، وتحقيق أهدافه، مع ما يصحب ذلك من بذل الأسباب، وحسن التوكل على الله، ولا شك أن هذا ينعكس على الصحة النفسية والبدنية، إضافة إلى تأثير التفاؤل على الأداء والعمل، فالتفاؤل يدفع إلى الكسب والسعي الذي هو ضد العجز والقعود، ويرفع من قدرات الفرد على مواجهة الصعاب، وتخطي العقبات، وتكرار المحاولات، وهذا مما تعززه تلك النصوص النبوية في نفس المتلقي، فبناء النفس البشرية بناء قويا هو أهم مقاصد الشريعة.
 فالقوة النفسية أساس لجوانب القوة الأخرى، ومن تأمل النصوص والأحكام وجد هذا واضحا، سواء في مجال العقائد والتصورات، أو في مجال التكاليف والعبادات فهي كلها بناء وتأسيس لكيان هذا الإنسان ظاهرا وباطنا، حتى يتلقى المهمة الوجودية في عمارة الأرض بكفاءة وقدرة نفسية عالية.

 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة