ثقافة الاعتذار في السنة النبوية

0 0

الاعتذار ليس مجرد كلمات تقال للتخلص من العتب فحسب، بل هو ثقافة تستند إلى قيم عالية، فالاعتذار في حقيقته مجموعة من الأخلاق والمعاني السامية، فهو علامة على تعالي المتصف به على هوى النفس، ونزعات الكبر والغرور، وهو إيثار للحق على ما سواه، واحترام لحقوق الغير وحرماتهم، ولذلك فإن التوبة بين العبد وربه هي أعلى مقامات الاعتذار، فكانت من أعظم الأعمال التي يحبها الرب سبحانه من العباد، وفي السنة النبوية تربية على التحلي بهذه القيمة الجليلة.

مفهوم الاعتذار:

هو الاعتراف بالخطأ الحاصل تجاه الغير، سواء كان مقصودا أو غير مقصود، والتماس الإعذار والقبول من الغير، بعبارة تناسب الحال، من خلال اقتناع تام بوجود خطأ، واقتناع بضرورة تصحيحه.

أهمية إشاعة ثقافة الاعتذار:

لما كان الإنسان مجبولا على الخطأ بمقتضى تركيبته البشرية، كان لا بد من تلافي هذه الطبيعة بمجموعة من الأساليب التي تحد من آثار الخطأ، فكان الاعتذار والإعذار من أهم الأخلاق التي يصلح بها الإنسان خطأه وخطأ غيره، ففي سنن الترمذي عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

ولما للاعتذار من آثار إيجابية على الفرد والمجتمع فإنه ينبغي أن يربى عليه الصغار ويتمثله الكبار، وأن يشيع ذلك بين المسلمين، في الأسرة بين الأزواج والإخوان والأقارب، وبين الأصدقاء والزملاء، وفي دوائر العمل، ومؤسسات التعليم، وبين المسؤولين والرعية، فذلك كفيل بوأد الخلافات، وجمع الكلمة على الخير والنفع.

وقرار الاعتذار ينم عن قوة وشجاعة، وليس كما يظن البعض بأن الاعتذار ضعف وذل، وكثيرا ما يتباطأ الناس عن الاعتذار حفظا لكرامتهم كما يتوهمون، مع أن الكرامة الحقيقية تكون في إخضاع النفس للحق، وتطويع الكبرياء للاعتراف بالخطأ، وإلا فإن النفس تتعاظم وتطغى، حتى تستنكف عن الرجوع إلى الحق، وهذا مورد هلاك وندامة، وهو من أخلاق إبليس ومن وقع في غوايته من البشر.

 قبول العذر:

 وإذا كانت السنة النبوية قد ورد فيها ما يعزز من خلق الاعتذار من المخطئ، فقد ورد أيضا ما يدل على فضيلة الإعذار ممن وقع عليه الخطأ، حتى لو لم يحصل الاعتذار فإنه يقدر في نفسه عذرا لأخيه، وتلك غاية في الإحسان في التعامل مع الخلق، ففي المستدرك عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، ومن أتاه أخوه متنصلا فليقبل ذلك منه محقا كان أو مبطلا، فإن لم يفعل لم يرد علي الحوض قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. انتهى.

والحديث وإن كان متكلما في صحته غير أن الترغيب في قبول الاعتذار، وإقالة العثرات مما تشهد له أصول كثيرة، فالمسلم مطالب ندبا أن يعفو عمن ظلمه ولو بدون أن يعتذر إليه، فكيف بمن قد جاء معتذرا، وإن كان يفعل ذلك إحسانا ورغبة في ثواب العفو، وليس على سبيل الحتم والإلزام.

ففي المسند عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أقال عثرة أقاله الله يوم القيامة. وفي الشعب للبيهقي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  ينادي مناد يوم القيامة: لا يقوم اليوم أحد إلا أحد له عند الله يد، فيقول الخلائق: سبحانك، بل لك اليد، فيقول ذلك مرارا، فيقول: بلى من عفا في الدنيا بعد قدرة .

 قال ابن حبان رحمه الله في روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: فالواجب على العاقل إذا اعتذر إليه أخوه لجرم مضى، أو لتقصير سبق، أن يقبل عذره ويجعله كمن لم يذنب؛ لأن من تنصل إليه فلم يقبل أخاف أن لا يرد الحوض على المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن فرط منه تقصير في سبب من الأسباب يجب عليه الاعتذار في تقصيره إلى أخيه، ولقد أنشدني محمد بن عبد الله بن زنجي البغدادي ...

 
إذا اعتذر الصديق إليك يوما ... من التقصير عذر أخ مقر       فصنه عن جفائك واعف عنه ... فإن الصفح شيمة كل حر ".      

 وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: قال الحسن بن علي: لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره.

 وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا ارحموا ترحموا، اغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون رواه أحمد وغيره.

 الصدق في الاعتذار:

 لا يكفي مجرد إلقاء الأعذار ولو كانت كاذبة، بل ينبغي على المعتذر أن يكون صادقا في اعتذاره، فالكذب في الاعتذار لا يبرره القصد الحسن، وإلا فقد كان المنافقون يكثرون الاعتذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتخلفهم عن الغزو ومشاهد الحق، لكنهم كانوا كاذبين في تبرير قعودهم وخذلانهم.

 ففي الصحيحين من حديث أبي بن كعب في قصة تخلفه عن غزوة تبوك: "فقال لي: ما خلفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك، فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق، تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك . فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك".

 فقد اختار الصادقون من المؤمنين أن يعتذروا بصدق، ويتحملوا الجفاء الذي حصل لهم، وأما المنافقون فقد اعتذروا كاذبين، لكن العاقبة كانت للصادقين، وفضح القرآن كذب المنافقين، ولم ينفعهم اعتذارهم وأيمانهم.

 وفي قصة حاطب رضي الله عنه ما يدل على مثل ذلك، كما ورد في صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب، وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟، قال: يا رسول الله، لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد صدقكم.

 من مواقف الاعتذار بين الصحابة:

 لما كان مجتمع الصحابة هو الذي تمثل الوحي قولا وفعلا، فقد ظهرت فيهم أخلاق الإسلام صافية نقية، ومن ذلك قيمة الاعتذار الصادق، وتسوية الخلافات البسيطة إن حصلت، فقد كان أحدهم لا يأنف من الإقرار بالخطأ، وطلب العفو من صاحبه.

 ففي صحيح البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين.

وفي موقف آخر بين الشيخين يظهر حسن الاعتذار وكرم الإعذار، ففي صحيح البخاري أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يحدث: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا، توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها.
وفي السنة النبوية مواقف اعتذار من الأعلى إلى الأدنى، فقد اعتذر أبو بكر رضي الله عنه لرجل من عامة الرعية، وهو يومئذ خليفة رسول الله، وعلى رأس الدولة، وهذا يجعل ثقافة الاعتذار قيمة عامة، وخلقا ينبغي أن يتمثله الجميع على اختلاف مواقعهم ومناصبهم.

ففي السنن الكبرى للبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه قام يوم جمعة فقال: " إذا كان بالغداة فاحضروا صدقات الإبل تقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملا، فأبى الرجل فوجد أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما قد دخلوا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا بالرجل فأعطاه الخطام وقال: استقد، فقال له عمر: والله لا يستقيد، لا تجعلها سنة، قال أبو بكر: فمن لي من الله يوم القيامة، فقال عمر رضي الله عنه: أرضه، فأمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه أن يأتيه براحلته ورحلها وقطيفة وخمسة دنانير، فأرضاه بها.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة