مفهوم الإيمان بالقضاء والقدر

0 1

الإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، كما جاء في حديث جبريل المشهور بحديث الدين وذلك في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره). قال جبريل: صدقت.

والنصوص التي تدل على أن الله قدر كل شيء في القرآن والسنة كثيرة، فمن ذلك قوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}[القمر:49]. وقوله: {وكان أمر الله قدرا مقدورا}[الأحزاب:38]، وقوله: {ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا}[الأنفال:42]. وقال: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان:2]. وقال: {سبح اسم ربك الأعلى (1) الذي خلق فسوى (2) والذي قدر فهدى}[الأعلى:1-3].
وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شيء خلقناه بقدر }[القمر:48ـ49].

معنى الإيمان بالقدر
ومعنى الإيمان بقضاء الله وقدره، أن يؤمن العبد أن كل ما يجري من الأحداث إنما يجري على حسب علم الله القديم، وقضائه المبرم السابق.
فإن الله جل وعلا قد خلق الخلق، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته.. وهو أعلم بما هم عاملون قبل أن يعملوه، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن.
روى مسلم في صحيحه عن طاووس قال: "أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز".

مراتب الإيمان بالقدر
والإيمان بالقدر إنما يصح للعبد بأن يؤمن بأربعة أشياء:
الأول: الإيمان بعلم الله القديم
المحيط بكل الأزمان والأماكن والأحوال، فالله تعالى أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، وعلم كل شيء جملة وتفصيلا، أزلا وأبدا، ما يتعلق بأفعاله هو سبحانه، أو بأفعال عباده، ما كان منها وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال سبحانه: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}، فإنهم لن يردوا، ومع ذلك أخبر أنهم لو ردوا لعادوا لما كانوا عليه.. فعلم سبحانه كل شيء قبل أن يخلقه، ومآل كل شيء قبل أن يؤول إليه، وهو سبحانه عالم بعمل عباده قبل أن يعملوه، لا كما يقول القدرية "إن الأمر أنف، وأن الله لا يعلم الشيء قبل وقوعه"، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.. قال سبحانه: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}[آل عمران:5]، وقال: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما}[.

ثانيا: الإيمان بأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ
فهو عنده سبحانه جل في علاه، مكتوب مسطور مقيد، في كتاب سماه القرآن باللوح المحفوظ، وبالإمام المبين، قال تعالى في سورة الحج: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض ۗ إن ذلك في كتاب ۚ إن ذلك على الله يسير}[الحج:70]، وقال في سورة الحديد: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهاۚ إن ذلك على الله يسير}[الحديد:22]، وقال في يس: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}[يس:12]، وقال: {بل هو قرآن مجيد . في لوح محفوظ}[البروج:21-22]. وقال: {وكل شيء فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر}[القمر:52ــ53]. إلى آخر الآيات.

وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة). قال عبادة لابنه: يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني). وقد روى مثله أحمد في المسند والترمذي في سننه.

ثالثا: الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة
فهو سبحانه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، إرادته نافذة ومشيئته قاهرة، وقدرته كاملة، والمراد هنا إرادته الكونية لا الشرعية، فما شاء الله كونه قدرا كان، وما لم يشأ لم يكن، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى أنه كائن، ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى، ليجعلوه كائنا، لم يقدروا عليه. جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.

قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)[رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].

فما قدره لابد واقع؛ فإنه سبحانه لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}[يس:36]، {إن الله يفعل ما يشاء}[الحج:]، {إن الله يحكم ما يريد}[المائدة: ]، {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}[الأنعام:39]. {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير:29].

وأما ما لم يقع في الكون فليس لعدم قدرته سبحانه عليه، ولكن لعدم مشيئته وقوعه، كما قال: {ولو شآء ٱلله لجعلكم أمة وحدة}[المائدة:48]، وقال: (ولو شآء ٱلله لجمعكم على الهدى)[الأنعام: 35]، وقال: {ولو شآء ٱلله ما أشركوا}[الأنعام: 107]، وقال: {ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا} [يونس:99]، وقال: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا} [الفرقان:45 ].

رابعا: الإيمان بأن الله خالق كل شيء
فليس شيء في كون الله إلا وهو سبحانه خالقه، وليس في الكون خالق سواه، لم يخلق أحد خيرا ولا شرا، ولا نفعا ولا ضرا، ولا إيمانا ولا كفرا، ولا شمسا ولا قمرا، ولا نورا ولا ظلمة، وإنما الله سبحانه هو الخالق وحده لا شريك معه في خلقه، فالله سبحانه رب كل شيء وخالقه، وكل ما سواه فإنما هو مربوب مخلوق {الله خالق كل شيء}[الزمر:62]، {والله خلقكم وما تعملون}[الصافات:96]. {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له}[الحج:73].

إرادة العبد ومشيئته
والإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة وإرادة يختار بها فعله ويحاسبه الله عليها.. فالله إنما يحاسب العباد على عملهم وكسبهم لا على علمه فيهم، ولا على شيء لا اختيار لهم فيه.. وقد أثبت القرآن الكريم والسنة للعباد إرادة وعملا وكسبا ومشيئة واختيارا.. قال تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}[الإنسان:29]، وقال: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}[الشورى:30]، فأثبت لهم كسبا ورتب عليه الجزاء، وقال سبحانه، و{وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون}[الزخرف:52]، وقال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ۚ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}[البقرة:286]، وقال: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}[الكهف:29].. وكل إنسان منا يعلم من نفسه أن له إرادة ومشيئة واختيارا يتحرك به ويفاضل بين الأمور.. غير أن هذه المشيئة وتلك الإرادة لا تخرج عن علم الله المحيط وإرادته النافذة {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير:29]. {وما يشاءون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة}.

لا تخاصم الله في القدر
ولا تتعمق ولا تسل: لم أعطى هذا ومنع هذا، ولم أغنى هذا وأفقر ذاك، وأمرض فلانا وعافا غيره، وهدى شخصا وأضل ثانيا، ولا لماذا خلق كذا وفعل كذا؛ فإن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا تخاصم الله في قدره فإن القدر سر الله في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وسلم لله في أمره فإنه ما ثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام.. ولقد قال بعض السلف: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ثم وجدت أعلم الناس به أسكتهم عنه، وأجهل الناس به أخوضهم فيه..
قال الطحاوي رحمه الله: "فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما، وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما، وعاد بما قال فيه أفكا أثيما".
وقد أعجز الله عباده عن فهم كنه قدره، فطوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه، كما قال في كتابه: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}{الأنبياء: 23}. قال الطحاوي: "فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار،:‏ موسوسا تائها شاكا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا‏:"

لا تحتج بالقدر على المعائب
فإن القدر ليس بحجة لأحد، بل لله الحجة البالغة، ومن احتج بكفره أو بمعصيته أو بذنبه بالقدر فقد سلك سبيل المشركين كما حكى الله عنهم {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ۚ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ۗ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ۖ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة البالغة ۖ فلو شاء لهداكم أجمعين}[الأنعام].
فرد الله عليهم احتجاجهم بالقدر، وأكذبهم في حجتهم كما كذب الذين من قبلهم، فليس لأحد حجة على الله بل لله الحجة البالغة.
والمؤمن يفعل مثلما فعل أبوه آدم حين وقع في المعصية، علم أنه عصى وأخطأ فتاب ورجع وقال: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}[الأعراف:23].
فالقدر لا يحتج به على المعائب، وإنما يحتج به على المصائب، كمن مات له ولد، أو ضاع له مال، أو وقع به ما لا يد له فيه..

كل ميسر لما خلق له

لقد سأل الصحابة رضوان الله عليهم نبيهم عن أمر القدر، وهل الأمور منتهية منقضية محكوم فيها، أم أن الأمر فيما يستقبل، فأخبرهم أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فسألوه: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له.. أي اعملوا ولا تتعللوا بالأقدار، وإنما اشغلوا أنفسكم بما خلقتم له وأمرتم به، ولا تشغلوها بما غاب عنها وما لا تقدر عليه..
روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: "لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت بها المقادير". قال: ففيم العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر).

وروى مسلم عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت شقيه أو سعيدة. فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة). فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى} [ الليل:5-10].

فالإيمان بالقدر باعث على العمل والسعي، لا على الجدل والقعود، ومن آمن بقضاء الله وقدره، نفعه ذلك في دينه ودنياه وآخرته.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة