أهل السُنة وخطورة القول على الله بغير علم

0 6

كل مسألة من المسائل الشرعية - ولاسيما مسائل الاعتقاد - لا يحكم فيها أهل السنة نفيا أو إثباتا إلا بدليل، فما ورد الدليل الصحيح بإثباته أثبتوه، وما ورد بنفيه نفوه، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليل توقفوا فيه، لا إثباتا ولا نفيا، إما مطلقا أو لحين وجود الدليل الصحيح.. فمن سمات وصفات ومنهج أهل السنة السكوت عدم القول على الله عز وجل بغير علم، إذ القول على الله تعالى بغير علم من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، وقد جعله الله عز وجل نظير الشرك بالله، قال الله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(الأعراف:33). قال ابن الجوزي: "عام في تحريم القول في الدين من غير يقين". وقال ابن القيم: "وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريما، وأعظمها إثما، ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تباح بحال، بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير، الذي يباح في حال دون حال.. فهذا (القول على الله بغير علم) أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما، فإنه يتضمن الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثما، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم"..
وقد ورد الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، وأقوال الصحابة والتابعين، وأئمة السلف وأهل السنة، بالأمر بعدم القول على الله بغير علم، والسكوت عما سكت عنه الله ورسوله، ومن ذلك:

أولا: الآيات القرآنية في عدم القول على الله بغير علم:
1 - قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}(الإسراء:36). قال ابن كثير:"قال قتادة: لا تقل: رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمت، ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله. ومضمون ما ذكروه: أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم". وقال البغوي: "وحقيقة المعنى لا تتكلم أيها الإنسان بالحدس والظن (الظن والتخمين)، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا، قيل: معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده". وقال السعدي: "ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا علي، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا، فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته، أن يعد للسؤال جوابا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله، وإخلاص الدين له، وكفها عما يكرهه الله تعالى".
2 ـ قال الله تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(البقرة:169:168). قال الطبري: "فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، أن قيلهم: "إن الله حرم هذا!" من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان، وأنه قد أحله لهم وطيبه، ولم يحرم أكله عليهم، ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعة منهم للشيطان، واتباعا منهم خطواته، واقتفاء منهم آثار أسلافهم الضلال وآبائهم الجهال، الذين كانوا بالله وبما أنزل على رسوله جهالا وعن الحق ومنهاجه ضلالا". وقال السعدي: "{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا وأوثانا، تقرب من عبدها من الله، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا، أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم.. ومن أعظم القول على الله بلا علم، أن يتأول المتأول كلامه، أو كلام رسوله، على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال، ثم يقول: إن الله أرادها، فالقول على الله بلا علم، من أكبر المحرمات، وأشملها، وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها".
3 ـ قال الله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(الأعراف:33). قال السعدي: "{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه، فكل هذه قد حرمها الله، ونهى العباد عن تعاطيها، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتجري على الله، والاستطالة على عباد الله، وتغيير دين الله وشرعه". وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "فرتب المحرمات أربع مراتب: وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منها، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه".
4 ـ قال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}(النحل:116). قال ابن كثير: "ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه"..

ثانيا: الأحاديث النبوية في عدم القول على الله بغير علم، والسكوت عما سكت عنه الله ورسوله:
1 ـ عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وتلا: {وما كان ربك نسيا}(مريم:64)) رواه الدار قطني والطبراني والبزار.
2 ـ عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا (بين وعين أحكاما) فلا تعتدوها (تتجاوزوها)، وحرم أشياء فلا تنتهكوها (لا تقعوا فيها ولا تقربوها)، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه الدار قطني والطبراني والحاكم والبيهقي، وصححه بعض العلماء وضعفه آخرون.. قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": "حديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام الله أربعة أقسام: فرائض، ومحارم، وحدود، ومسكوت عنه، وذلك يجمع أحكام الدين كلها.. قال ابن السمعاني: فمن عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب، وأمن العقاب، لأن من أدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين، لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث".
وقال المناوي: "(وسكت عن أشياء) لم يذكر حكمها (رحمة بكم) أي: فعل ذلك لأجل رحمته، ورفقه بكم، وتخفيفه عنكم، (من غير نسيان) للنص على حكمها، إذ لا يضل ربي ولا ينسى، ولهذا تلا المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء: {وما كان ربك نسيا}(مريم: (64)، (فلا تبحثوا عنها) أي: فلا تستكشفوا عن أحوالها ولا تسألوا عنها كما قال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}(المائدة:101)، وهذا يحتمل اختصاصه بزمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن البحث عما لم يذكر حكمه قد يكون سببا للتشديد بإيجاب أو تحريم، بدليل حديث: (إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته) رواه البخاري".. وإن كان السؤال في غير زمن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وقد انقطع الوحي واكتمل التشريع ـ فيمكن للإنسان أن يسأل، لكن على ألا يكون ذلك على سبيل التكلف والبحث والسؤال عما لا ينبغي، فهذا كله مذموم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) رواه الترمذي وابن ماجه.
3 ـ عن سلمان رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) رواه الترمذي..
ثالثا: أقوال الصحابة والتابعين وأهل السنة في عدم القول على الله بغير علم:
1 ـ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}(ص:86)" رواه البخاري. وفي "ذم الكلام" للهروي: "روى اللالكائي بسنده عن أبي إسحاق قال: "سألت الأوزاعي فقال: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعه". وقال الشعبي: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول". وفي "الصارم المنكي" لابن عبد الهادي: "ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة، لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر". وفي "فضل علم السلف على الخلف" قال ابن رجب: "فالعلم النافع من هذه العلوم كلها: ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقاق، والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل".. وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "ما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه وإلا سكتنا عنه، فلا نثبت إلا بعلم، ولا ننفي إلا بعلم.. فالأقسام ثلاثة: ما علم ثبوته أثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه، هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته".

فائدة:
ليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما}(النساء:48}. والقول على الله تعالى بغير علم، منه ما هو كفر وشرك، ومنه ما هو دون ذلك، فما كان منه كفرا أو شركا ناقضا للإيمان فهو أظلم الظلم وأعظم الذنب، كادعاء النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو ادعاء أن لله سبحانه ولدا، ومن ذلك قوله تعالى: {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}(يونس:70:68)، وقوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}(الأنعام:93)، فهذا من القول على الله تعالى بغير علم في باب من أبواب الكفر والشرك. قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(الأعراف:33): "أي: تجعلوا له شريكا في عبادته، وأن تقولوا عليه من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدا ونحو ذلك، مما لا علم لكم به". وأما ما كان دون ذلك من أنواع القول على الله تعالى بغير علم، كالفتوى بغير علم، فإنها وإن كانت عظيمة وكبيرة، إلا إنها ليست أعظم من الشرك.. فكل شرك فيه قول على الله بغير علم، دون العكس، قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "أصل الشرك والكفر هو القول على الله بلا علم، فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبودا من دون الله، يقربه إلى الله، ويشفع له عنده، ويقضي حاجته بواسطته، كما تكون الوسائط عند الملوك، فكل مشرك قائل على الله بلا علم، دون العكس".. فليس كل قول على الله تعالى بغير علم، يعد كفرا وإن كان إثما عظيما، وخطئا كبيرا، وليس كل من حرم حلالا، أو أحل حراما، أو أفتى بغير علم، يكفر بذلك، بل ليس كل من قال كفرا، يخرج من الملة، حتى تتحقق فيه شروط التكفير وموانعه، فقد قرر علماء أهل السنة ـ من السلف والخلف ـ أنه لا يحكم على مسلم معين بالكفر لمجرد قول قاله أو عمل وقع فيه حتى تقام عليه الحجة، فالحكم على القول والفعل بأنه كفر، لا يلزم منه كفر فاعله. قال ابن تيمية: "وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها" وقال أيضا ـ ابن تيمية ـ: "ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن يثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".

القول على الله بغير علم من أعظم آفات اللسان خطرا على صاحبها، ومن أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، ومن أعظم مقاصد الشيطان، قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(البقرة:169): "أي: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم". وقال ابن القيم: "حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات.. وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في: أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه".. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة