استثارة همم المدعوين

0 1

الدعاة هم أحرص الناس على الناس، وأرغب في إيمانهم وقبولهم الحق، وهم أخوف الناس على الناس، وأكثرهم شفقة عليهم، وقد خاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم قائلا: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}[الشعراء:3]، {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}[الكهف:6].. وإنما كان ذلك من شدة حرصه صلوات الله عليه وسلم على إسلامهم، وحزنه على تعنتهم وكفرهم وعدم قبولهم لدعوته.. ليس لغرض خاص، وإنما هو الشفقة على المدعوين، ومحبة النجاة للخلق أجمعين.

والدعاة إنما هم مصابيح هدى، ومنارات إصلاح، يضيئون للناس الطريق إلى الحق، ويأخذون بأيديهم إليه بكل رفق، وينتهجون كل السبل التي تؤدي في النهاية بالمدعو إلى قبول النصح والدين، والهداية إلى الصراط المستقيم، لا لشيء إلا لينقذوهم من نار الجحيم. كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي)[متفق عليه].

إن الداعية الموفق ـ كما يقول صاحب كتاب "الدعوة قواعد وأصول" ـ هو الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولكن يتقبلهم على علاتهم وعلى ما هم عليه، فلا ينفر منهم، ولا يسخر من أفكارهم، بل يتسع صدره لما يقولون بابتسامة لا تفارق محياه، حتى ولو كان المدعو متغطرسا، شرس الطباع، فإنه يستثير همته، ويحاول إظهار جانب الخير فيه ليفتح قلبه لحسن الاستماع، ويشجعه على إنماء هذا الخير، فيثني على الأمر الصغير من الخير ـ ولو كان مثقال ذرة ـ حتى يشجعه على المعروف فيعمله، ويشوقه إلى تقبل الحق، ويستثير مشاعره كإنسان له شخصيته الكريمة.

ونحن إذا تدبرنا كتاب الله لوجدنا فيه الكثير من النداءات التي تستثير الهمم وتستجيش العواطف، وتدفع العقل للتفكر، والقلب للتقبل، والجوارح للعمل.. فاسمع ـ على سبيل المثال ـ نداء إبراهيم لأبيه: {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان ۖ إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا}[سورة مريم].. فانظر كيف يستجيش العاطفة، بنداء الأبوة، ثم يذكره بمدى خوفه عليه من عذاب الله، وحرصه على نجاته مما هو عليه من الكفر، وينفره ببيان أن هذا طريق الشيطان، كل هذا ليشعره بحرص الابن على أبيه، ليدفعه إلى تقبل ما يدعوه إليه.

وهذا لقمان عليه السلام يعظ ابنه فيقول: {يا بني لا تشرك بالله ۖ إن الشرك لظلم عظيم}[لقمان:13ـ19]. فهو يقدم بين يديه نداء الأب لابنه الحريص عليه، الذي يريد له كل الخير.

وهذا تنوع في طرق الدعوة وأساليب استثارة الهمة، فلئن كان إبراهيم يستثير أباه برباط الأبوة، فإن لقمان يستثير همة ابنه برباط البنوة. وها هو ذا كل من هود وصالح وشعيب ولوط، كلهم ينادي على قومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}[سورة هود]. فيذكرهم بأنهم قومه وأنه أخوهم؛ ليكون كلامه أحب إلى أسماعهم وأقرب إلى قلوبهم..

والنداءات القرآنية من هذا النوع كثيرة متنوعة، تارة يناديهم بمسمى الإيمان {يا أيها الذين ءامنوا}، فيكون أدعى إلى القبول والاستجابة، وتارة ينادي عليهم بـ {يا أيها الناس} وفيه تذكير بربوبيته لهم، وأنه خالقهم ورازقهم، ومالك رقابهم، ومدبر أمورهم، وعالم بما يصلحهم، فينبغي عليهم أن يطيعوه، وأن يوحدوه شكرا له على ما أنعم عليهم.. وهكذا.

رسول الله الأسوة الحسنة
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة أيضا في هذا الأمر، كما هو الحال في غيره من الأمور؛ يقول ابن عباس: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين}[الشعراء:214] صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب}[أخرجه البخاري].

فانظر كيف أنه صلى الله عليه وسلم نادي عليهم نداءات تستثير حميتهم، وتشعرهم بشفقته عليهم، وقربه منهم، وخوفه على مصائرهم، ونصحه أيضا لهم، بعبارات رقيقة وكلمات جذابة، وحقائق صادقة يقول لهم: (إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم).. فأي أثر في النفس يكون بعد سماع هذه الكلمات الرقيقة الجميلة؟ إنها دروس مستفادة لينهج الدعاة نهجها، وينسجوا على منوالها.[الدعوة قواعد وأصول:167].

الحليس بن علقمة
واستمع إلى هذه القصة ـ التي ذكرها ابن إسحاق وأهل السير في صلح الحديبية ـ لترى أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، وعظمته وبراعته في استثارة همم الناس.. ففي صلح الحديبية أرسلت قريش عددا من الناس يفاوضون رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وكان ممن أرسلت "الحليس بن علقمة"، وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ (إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه). فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك‏.‏ فقالوا له‏:‏ اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك‏.‏ فغضب الحليس عند ذلك وقال‏:‏ يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟‏!‏ والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد‏.‏ قال‏:‏ فقالوا له‏:‏ مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به‏.‏.
فانظر كيف أنه صلى الله عليه وسلم بهذا التصرف الحكيم استثار مكامن الخير في الحليس وألف به قلبه وكسبه لصفه، وانقلب بالحليس على حلفائه..

إن الدعاة إلى الله لا يغتاظون، ولا ينظرون نظرة الكراهية إلى من يدعونهم من المخالفين لهم، والمعرضين عنهم، وإنما يحلون الشفقة والحرص على المدعوين مكان الحنق والغضب والانتصار للنفس؛ لأن شفقتهم على الناس أسبق من شفقتهم على أنفسهم. وإن استثارة الهمم إنما تكون بالكلمة الطيبة الخالية من الحقد والغيظ، فإنها أقطع من السيف في تطويع نفس المدعو وإذعانه للدعوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- كتاب "الدعوة قواعد وأصول" لجمعة أمين

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة