يا باغي الخير أقْبِل، ويا باغي الشر أقصِر

0 78

من أعظم النعم التي ينعم الله تعالى بها على عباده، أن يبلغهم شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران، شهر التوبة والرضوان، شهر العتق من النيران، شهر تتنزل فيه الرحمات، وتتضاعف فيه الحسنات، وتغفر فيه السيئات.. فمجرد بلوغك شهر رمضان نعمة كبرى من الله تعالى عليك، ولذلك كان السلف يدعون ربهم ستة أشهر كاملة أن يبلغهم إياه لما يعلمون فيه من الفضائل والخيرات والبركات.. فإذا من الله عليك ببلوغه ومد في عمرك لوصوله، فالواجب استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، فإنها إن فاتت ولم تستغلها في التوبة الصادقة، والاجتهاد في الطاعات والعبادات، والمسارعة إلى الخيرات، كانت خسارة ما بعدها خسارة، وأي خسارة أعظم من أن يدخل الإنسان شهر رمضان ويخرج منه وذنوبه لم تغفر، وأي خسارة وحرمان أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له) رواه الترمذي.

والله عز وجل بفضله أنعم علينا بمواسم من الخيرات نحصل فيها بالأعمال الصالحة القليلة اليسيرة على الثواب الكثير والعظيم منه سبحانه وتعالى، ومن نعمه كذلك أن سخر لنا من الأسباب ما يعيننا في هذه الأوقات الفاضلة على الإسراع بالتوبة، والاجتهاد في أداء الطاعات والعبادات، ومن ذلك بلوغنا شهر رمضان.. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنان، فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة) رواه ابن ماجه.
قال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "قوله: (صفدت الشياطين) أي: شدت وأوثقت بالأغلال.. والمردة جمع مارد، وهو العاتي الشديد، روى البيهقي عن الإمام أحمد عن الحليمي أنه قال: تصفيد الشياطين في شهر رمضان، يحتمل أن يكون المراد به أيامه خاصة، وأراد الشياطين التي هي مسترقة السمع، ألا تراه قال: (مردة الشياطين) لأن شهر رمضان كان وقتا لنزول القرآن إلي السماء الدنيا، وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب، كما قال تعالي: {وحفظناها}(الحجر:17)، والتصفيد في شهر رمضان مبالغة للحفظ، ويحتمل أن يكون المراد به أيامه وبعده، والمعنى أن الشياطين لا يخلصون فيه من إفساد الناس ما يخلصون إليه في غيره، لاشتغال أكثر المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات.. قوله: (يا باغي الخير) أي يا طالب الثواب أقبل، هذا أوانك، فإنك تعطى ثوابا كثيرا بعمل قليل، وذلك لشرف الشهر، ويا من يشرع ويسعى في المعاصي تب وارجع إلي الله تعالي، هذا أوان قبول التوبة، (ولله عتقاء من النار)، لعلك تكون من زمرتهم".
وقال ابن حجر في "فتح الباري": "وقوله: (صفدت)  ...أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت، ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود وقال فيه: (فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب الشهر كله) قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين.. ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات وذلك أسباب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات. قال الزين بن المنير: والأول (التصفيد على ظاهره وحقيقته) أوجه، ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره.. وجزم التوربشتي شارح "المصابيح" بالاحتمال الأخير وعبارته: فتح أبواب السماء كناية عن تنزل الرحمة، وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق، وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات. وقال الطيبي: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق ما يزيد في نشاطه ويتلقاه بأريحية. وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرا، فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب: أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم.. أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم ألا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية".
وقال الكرماني في "شرح مصابيح السنة": "(وينادي مناد: يا باغي الخير) أي: يا طالب الثواب (أقبل) أي: ارجع وتعال واطلب الثواب بالعبادة، فإنك تعطى ثوابا كثيرا بعمل قليل، وذلك لشرف الوقت. و(يا باغي الشر أقصر) أي: يا من سعى بالمعاصي اتركها، وتب وارجع إلى الله تعالى. (ولله عتقاء من النار) أي: يعتق الله عبادا كثيرا من النار بحرمة هذا الشهر. (وذلك) أي: هذا النداء (كل ليلة): من ليالي رمضان"..

يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كانت أول ليلة من رمضان) مع بدء شهر رمضان تأتي علامات وهدايا وفضائل من الله عز وجل لعباده، إكراما وعونا من الله تعالى لهم، من تصفيد الشياطين، وغلق أبواب النار، وفتح أبواب الجنة، وينادي مناد من قبل الله عز وجل: (يا باغي الخير أقبل) أقبل على الله تعالى وعلى طاعته، (ويا باغي الشر أقصر) أمسك عنه وامتنع، فإنه وقت ترق وتسارع فيه القلوب للتوبة والطاعة، وتنفر من المعصية، ولله سبحانه عتقاء كثيرون من النار في كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، فلنحرص على أن نكون من هؤلاء العتقاء من النار، والفائزين بالجنة.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة